التعَـلّمُ والبَــواعِثُ النفسَــانية عِنـد المُتعـلِّم

admin
اقلام حرة
admin12 أبريل 2016
التعَـلّمُ والبَــواعِثُ النفسَــانية عِنـد المُتعـلِّم
محمد بوطاهر

تعتبرعملية التعلّم من العمليات المعقدة في حياة الانسان بشكل عام، حيث إن الانسان يتعلم ويكتسب المعلومات والخبرات والتجارب عن طريق تضافر عمليات عديدة، منها ما هو نفساني وسلوكي وتجريبي بصري وغيرها. ويكتسي الأمر اهمية كبرى حين يخص هذا التعلم المتعلم التلميذ، لاعتبارات ترتبط بسنه وقدراته وأحواله النفسانية وخاصة في فترة المراهقة. فترة استثنائية تنسُج علاقاتِ صراع وطيسٍ مع فعل التعلم وانجازه.

 ان الاشكالات التربوية داخل المؤسسة لا يمكن تذليلها دون استحضار جوانب أخرى، لا تقل اهمية عن تلك التي يعتبرها العديد من الفاعلين في الحقل التربوي ذات اولوية، وهي الجوانب الخاصة بذات المتعلم وشخصيته، انها ايقاعات تعَلُمِيَة تواكب جدلا الايقاعات المبسطة في البرامج المدرسية والتدابير الزمنية وطبيعة المواد المدروسة. فكيف يمكن التوافق بين لواعج المتعلم النفسانية والاجتماعية وأساسيات التعلُم ؟ ما السبيل الى الاستفادة من هذه الاختلافات الجِبلة عند المتعلمواعتبار خصائصه الشخصية أرضية صلبة في بناء مواقف التعلم؟ وهل المقاربات البيداغوجيا فعلا تراعي جوانب الاختلاف وخاصة الابعاد النفسانية عند المتعلم؟

 من الطبَعِي الاقرار باختلاف وتيرة التعلم عند متعلمي القسم الواحد، نظرا لتباين قدراتهم ورغباتهم وميولاتهم وحاجاتهم ودوافعهم، انه امر ناتج بالضرورة عن اختلاف أنماط تربيتهم وعائلاتهم وطرق نظرهم للأشياء وتحليلها. وهذا يفرض على الاستاذ (المُرافق) تنويع طرائق تدخله في عملية بناء الدرس ويوظف انواعا مختلفة من البيداغوجيات والاستراتيجيات حسب حاجيات المتعلم وطبيعته بين بيداغوجيا الفوارق والمشاريع والخطأ والمجموعات وحل المشكلات وغيرها، حتى يمنح لكل متعلم فرصته في ولوج الوضعيات التعلمية التي تناسبه، والتي يستفيد منها وتعكس مدى استيعابه للمتن المُدَرَس.

ان جُلَ المقاربات التي تُعْنى برفع مردودية المتعلم وتعزيز سياقات تعلُمه وتحصيله ما زالت قاصرة عن الالمام الناجع بمناط الاشكال في التدهور الخطير لمردودية المدرسة المغربية، فليس الحل هو الاخذ بالنظريات والبيداغوجيات وتفريخ الكتب المدرسية واختلاف الوانها، ولا في تهميش دور الأستاذ الشكلي ومنح هامش خطير من الحرية للمتعلم انسجاما مع رغباته التي  تتجه عكس مخططات الوزارة وأهدافها. إن الامر بالتأكيد لا يُعَالج بطريقة أحادية، فتضافر جهود الجميع وتكامل المقاربات وتناسبها هو السبيل الذي يمكن النفاذ منه الى بداية الاصلاح الحقيقي المبني على ثوابتٍ لا تريمُ بتغيُر الاشْخاص في المسؤوليات ولا أمزجة بعض المنظرين للشأن التربوي بشكل عام. فالأساس الآن وفق كل ما لامسناه الى حدود الزمن الراهن، من عمليات تدخل استعجالية وغير استعجالية في المنظومة التعليمية المغربية والتي لم تؤْت أُكلها كما كان مَرْجُوًا، هو البحث عن مكامن الخلل خارج ما هو كائن. فأين يكْمُن الخلل بالتحديــد؟؟

 بالرجوع الى شخصية المُتعلِم وعوالمه النفسانية وبواعث التعلم عنده، قد نلفِي بصِيصا من الأمل في تلمس طريق النجاح، خاصة اذا استحضرنا رزنامة من المذكرات والتوجيهات، وهي ثوابت عند الوزارة في حقيقة الامر، والتي تجعل من التلميذ محور العملية التعليمة التعلمية. فالمتعلم في زمن وسائل التكنولوجية الحديثة مثله مثل حاسوبه وهاتفه، مزود بنظام ( (systèmeايقاعي بيولوجي وسيكولوجي ينظم مختلف ايقاعات التعلم والتحصيل لديه. فحصص الفترة الصباحية ليست هي حِصَص المساء وشهر ماي ليس هو شهر دجنبر، والاضطراب الوجداني العاطفي ليس حالة صافية عادية تسمح بعملية تعلم ناجحة كما في استواء مزاج المتعلم. ان هذه التباينات وغيرها تلعب دورا مهما في عملية التعلم. ولإدراك هذا الامر سنعود الى بواعث التعلم عند القدماء لنبين ان المتعلم الحديث  لابد من انسجام ايقاعاته النفسانية مع ايقاعات التمَدرس او التعلم، وتمثلها بشكل واعٍ ومُدرك سيسمح لنا بالتأكيد في فهم اسباب الفشل الماثل امامنا كل هذه السنين، رغم كل التغييرات التي أحْدِثت في المنظومة التعلمية أفقيا وعموديا منذ سنة 2000.

ان نبع الابداع والتعلم لا يفيض فجأة، كما لا ينبعث من فراغ، بل لابد له من بواعث تثيره وتحركه لتدفع بالينبوع الكامن في اعماق المتعلم الى التدفق والعطاء، وقد ميز القدماء في الاستعداد النفساني لعملية الابداع والتعلم بين ثلاث مناحي، اولا التعلم والزمن ثم ثانيا التعلم والعوارض الذاتية والبدنية، أما الثالث فيشمل البواعث الخارجية(المحيط) الدافعة الى التعلم.

1 التعلم والظروف الزمنية: قديما قال ابن قتيبة ب”ان للشعر دواع تحث البطيء وتبعث المتكلف”(1) فالشاعر لا يقول الشعر الا في اوقات محددة مخصُوصة سماها حازم القرطاجني بالبواعث والمُهيئات، حيث بسط الحديث فيها عن اثر البيئة والجو والمطر والنبات والأهوية وغيرها من سياقات الابداع والتعلم(2). ان ذاكرة المتعلم تشتغل كما اسلفنا سابقا وفق نظام بيولوجي سيكولوجي مضبوط، فحصص الصباح دائما يرتفع فيها منحى الاستيعاب والتركيز عكس الحصص الزوالية التي تعرف فتورا ملحوظا، ويزيد الامر عمقا باستحضار طبيعة المواد المدروسة أهي أدبية أم علمية، حسابية أم تذوقية حسية. فتناغم البرامج والمواد مع هذه الايقاعات النفسانية عند المتعلم  بإمكانه ان يجيب عن تعثرات كثيرة كانت الوزارة تبحث عن حلول لها خارج مضانها. صحيح ان الوزارة اعتمدت في صياغة مذكراتها التنظيمية للزمن المدرسي(3)على بعض معطيات أعمال  فرنسوا تيستو f.Testu (4) لكن ذلك محدود جدا ولا يكاد يخرج عن نطاق توزيع المواد ومكوناتها تبعا للجدولة الزمنية اليومية والاسبوعية. فالمتعلم في حاجة الى منافذ جديدة في زمن التعلم، تناسب حاجاته النفسية التي قد تساعده في اكتسابٍ أفضل. إن تطور نظم أطوار المتعلم النفسانية يجب أن يُوَاكبَهُ التطور نفسه في وسائل التعلم وسياقاته.

2 – التعلم والعوارض الذاتية والبدنية: الكلام هنا دقيقٌ جدا ويصُب مُباشرة في التحليل النفساني للمتعلم وعلاقاته بأليات التنشئة الاجتماعية والتي صيرته على ذلك النحو من التفكير والهيئة. فالمراس والدُرْبة كما قال القدماء أمر ضروري لزيادة النبوغ والابداع، لكن العوارض النفسَانية لها القوِلُ الفصْل أحيانا في طريقة التعلم أوالابداع وسرعة إدراك التعلُمَات. فقد تجيئ أوقات لا يستطيع المتعلم ان يقول قولاَ ولا ان يكتسب حرفا. يقول ذوالرمة :” من شِعري ما طاوعني فيه القول وساعدني(يقصِدُ الطبع)، ومنه ما أجهدت نفسي فيه، ومنه ما جننت به جنونا” (5)، فمراعاة التغيرات الذاتية عند المتعلم واقتناص أوقات انفتاح أبواب إدراكاته كفيل برفع صبيب التَعَلُمات عنده، ولا حرج أن نقِرَ بذلك، فالفرزدق نفسه يقول بان قلع ضرس من أضراسه أهون عليه من عمل بيت من الشعر(6) في بعض حالاته التي تصاب فيه قريحته بالعقر. يضاف الى هذه التناسبات النفسانية وفعل التعلم ما يرتبط ب لواعج المتعلم وكبر هيئته الجسمانية او تكراره لسنوات عديدة أو مزاجية تمثلاته للتعلمات تبعا للمواد الدراسية أو طبيعة الاساتذة ذكورا أم إناثا، الى غير ذلك مما يجب الانتباه الى أهميته البالغة في انجاز تعلمٍ أفضل.

3 – التعلم والبوَاعِثُ الخارجية: تشتمل البواعث الخارجية على مجموعة من الأمور المادية وغير المادية  (الحاجات الدافعة، أو ما يُسمَى في علم النفس التربوي ب نظرية الدوافع) التي تحفز المتعلم وتدفعه الى فعل التعلم، بل أكثر من ذلك تسعى جاهدة الى تحبيب المعرفة إليه وتقريبه من الفضاء المدرسي أكثر. وتبدأ البواعث التي هي الدوافع من البيت/ الأسرة وقيمَة المدرسة/المؤسسة كتعلم لديها، ثم الشارع والمحيط والرفقة ومسار الطريق وصُولا الى المؤسسة. وقد يلعب قرب المؤسسة أو بعدها دورا حاسما في الرغبة في التعلم خاصة في بداية الحصص الزوالية التي تعرف ارهاقا نسبيا، خاصة اذا لم يتوفر المتعلم على وسيلة نقل مريحة. فالتوتر النفساني الذي ينتج عن التعب الجسدي بسبب الطريق، يظل عقبة أمام التعلم ويصير تركيز المتعلم شروذا  لفترات طويلة، بل قد يصبح حاجزا وممانعة إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الظروف الطبيعية في مناطق مخصوصة مثل الرياح والغبار والأمطار المتكررة وغيرها.

إن التعلم آلية ذهنية/ نفسانية متشابكة ومعقدة، تتشظى من المؤسسة وفزيقيتها لتشمل الفضاء المجتمعي للمتعلم وجميع مكوناته. فقديما ﻗـﻴل ﻟﮐﺜﻴﱢر:” ﻴﺎ أﺒﺎ ﺼﺨر، ﮐﻴف ﺘﺼْﻨﻊُ إذا ﻋﺴُرَ ﻋﻟﻴك ﻗول اﻟﺸﻌر: ﻗﺎل. أطوف ﻓﻲ اﻟرﺒﺎع اﻟﻤﺨﻟﻴﺔ، واﻟرﻴﺎض اﻟﻤﻌﺸﺒﺔ، ﻓﻴﺴﻬل ﻋﻟﻲ أرْﺼَﻨﻪ، وﻴُﺴرع إﻟﻲ أﺤﺴﻨﻪ.(7) هذا يدل على أهمية الفضاء وعلاقته التأثيرية في نفسانية المتعلم ومقدار إسهامه في فعل الاكتساب والتعلم. وانظر الان الى حال بعض المؤسسات التعلمية عندنا التي تعاني من شيخوخة وعِتِي وعلل هندسية كثيرة، تمتزج بالانحراف الذي يحيط بها في الشارع وعنف الانفصام الجغرافي الذي تتموقع فيه هذه المؤسسات التعليمية، حيث غالبا ما تُؤسَسُ في مَجاري الوديان أو خلف أدبار المَداشر والقُرى بعيدة وحيدة كأنها في زمن غابر .

 يتضح لنا في آخر المطاف، مقدار أهمية البواعث النفسانية في كسب رهان التعلم في المدرسة المغربية والرفع من صبيب التعلمات عند المتعلم. وقد استوعب القدماء هذا الامر منذ القرون القديمة، وانتبهوا الى أهمية الخصال النفسانية التي تهيئ كل انسان إلى عمل أو فكرة ما في الحياة  بتفوق وإجادة. إن الأمر ليدعوا بكثير من الحزم الى الأخذ بالبيداغوجيا الفارقية النفسانية، التي تجعل فعلا المتعلم هو محور العملية التعليمية التعلمية، وأن لا نحاول تقزيم النظريات البيداغوجيا ونسْجَها وفق مقاسِ تلميذ “نموذجي” ليس له أثر في واقعنا مطلقا، وإنما هو تمثل سرابي يقبع فقط، في أذهان أهل الشأن في وزارة التربية والتعليم، والذين يحاولون دوما معالجة الأطراف الصحيحة من جسد المنظومة ويتركون المريضة العليــلة منها ينخُرُها دُود الكسَلِ والجَهل والتسْفِـيه وهُم لا يبْصِرُون.

………………………………………..

الاحالات المرجعية

 (1) ابن قتيبة- مقدمة كتاب الشعر والشعراء

(2)حازم القرطاجني ه منهاج البلغاء وسراج الادباء – تح ابن خوجة ص: 40

(3) المذكرة رقم 122 (تنظيم الزمن المدرسي)

(4) فراسوا تستو- من السيكولوجيا الى البيداغوجيا

(5) تاريخ النقد الادبي عند العرب- طه احمد ابراهيم- دار الكتب العلمية- بيروت- ص 43

(6)المرجع نفسه- ص:43

(7)  الشعر والشعراء، ابن قتيبة، دارالمعارف، ،1995 ، ص28

…………………………………………………………………………………

المصدرمحمد بوطاهر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.