Ad Space

فاطمة باديعي تكتب ..”المتعة الناعمة السامة”

admin
2024-03-20T18:15:03+01:00
آخر الأخباراقلام حرة
admin20 مارس 2024
فاطمة باديعي تكتب ..”المتعة الناعمة السامة”
فاطمة باديعي

    عندما تكون بهرجة الزفاف أهم من سنة الزواج، وعندما تنسيك مراسيم الدفن فضائل الميت، وعندما يكون ثراء اللباس أفضل من الشخص، وعندما تكون زخرفة المعبد أقدس من الله، وعندما يصبح العالم منبوذا ويصير التافه بطلا، فاعلم أننا نعيش في زمن التفاهة، هكذا عبر الكاتب الأمريكي ادوارد غاليانو، إنه عصر التفاهة أو عصر الرويبضة وهو المصطلح الأدق الذي حذرنا منه نبينا الكريم الرسول ﷺ ، فماذا يحدث للعقل الإسلامي الذي من المفترض أن يكون جادا ونافعا وعقلانيا؟؟ أليس من المفروض أن تكون الرقمنة رمزا أو دليلا على التقدم والتحضر؟ ولماذا أصبحت وسائل الاتصال وسيلة للانحطاط والاسفاف في براثين الجهل والتفاهة؟ وكيف أضحت التفاهة من المنظور النفسي أسلوب حياة يتبناه بعض الأشخاص على مستوى التفكير والسلوك ؟؟

قديماً يُنسب إلى سقراط قوله لرجل جاءه متبختراً في مشيته: “تكلم حتى أراك”، ضاربا عرض الحائط أناقة الرجل وشكله الخارجي الجميل، وجعله يبدو تافها، موضحا بجملته أن القيمة الحقيقية للإنسان إنما تُقاس بالفكر والعقل والفعل.

في القرن السادس الهجري لاحظ ابنُ الجوزي أن ما يجذب الجماهير ويُغْريهم بالاستماع، إنما هو التافه بالجملة، ففي كتابه “تلبيس ابليس” تحدّث عن “القُصّاص” وغرائبهم اللاّمعقولة التي تجذب بتفاهتها الجماهير، وقد امْتَدَّ ذلك إلى عصرنا الحديث، حيث نجد أن صفحة رياضية أو صفحة ” فضائحية ” تُعْنى بالأخبار التافهة، في جريدة ما، تحظى دائما بأضعاف ما يمكن أن يحظى به مقال جاد أو تحقيق صحفي مُوَثَّق في الجريدة نفسها، لقد ازدهرت التفاهة بفضل جَمْهَرة الإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح اللاأخلاقي والعبثي والمُضْحِك واللاَّمعقول والمُضَاد للعلم والخرافي والغرائبي يُنْتِجه الجميعُ ويستهلكه الجميع، بعد ثورة الانترنت، يقضي الفرد العربي العادي أربع أو خمس ساعات (وربما أكثر) على وسائل التواصل الاجتماعي يُغَذِّي بالتافه ويَتَغذَّى به، وربما لو خصص نصف هذه الساعات للقراءة الجادة، لاستطاع في عشر سنوات قراءة أمّهات كتب الأدب والتاريخ والفلسفة، فمن المسؤول عن التفاهة؟

إن انتشار ظاهرة التفاهة لم يأت من فراغ، كما يقول المثل العامي “لا دخان بلا نار” فما هي الأسباب المفترضة التي جعلت من أناس سذجا يؤثرون على الجماهير؟

نفسيا عندما يكون مستعمل الانترنيت أمام الفيديو التافه فبينه وبين اتخاذ القرار مسافة ثانية من الزمن، مما لا يسمح لنفسه استدعاء الحس النقدي والتحري، وبالتالي يقصي العقل ويستجيب للرغبات، وحاليا أصبح مقياس الاستجابة هو عدد المشاهدات وبالتالي عندما يجدها المستعمل كثيرة فإنه ينصاع للنداء ويسقط في فخ الانضمام لمجموعة التافهين، وينعت صاحب الفيديو إما بالمسكين أو بالعبقري، لكن في نهاية المطاف فاستجابته عاطفية ونفسية وليست عقلية.

دينيا ونفسيا إن النفس لأمارة بالسوء، للأسف عدد هائل من العرب يقبلون بشكل فظيع على اللهث وراء الفضائح والفيديوهات غير الهادفة، فلن يستطيع أولئك المغمورون أن يصيروا نجوما من لا شيء لولا متابعتهم ونشر أعمالهم؛ إضافة إلى أن عقولنا لا تتماشى كثيرا مع الفكر والقراءة، لكنها تجد ضالتها في إشباع حاجاتها النفسية من خلال الإقبال على الأعمال التي توصف بالتافهة مثل متابعة أشخاص اكتسبوا شهرة من خلال فعل جنوني أو من خلال فضيحة اقترفوها أو حتى عمل غبي.



aid

تكنولوجيا وتقنيا أضحت الشهرة سهلة من خلال توفر الهواتف الذكية لكل شخص، وغزو الشبكة العنكبوتية كل البيوت وحولتها من بيوت إسمنتية إلى بيوت شفافة ووهنة كبيت العنكبوت معرضة للهدم في أية لحظة.

 اقتصاديا وماديا اهتمام بعض الحكومات بالبرامج الترفيهية لما تجنيه من أموال طائلة على حساب برامج راقية وهادفة، وغياب الرقابة على بعض المواقع (التيك توك واليوتوب) التي تتعمد المس بالقيم الدينية والوطنية، فما هي تجليات وتأثيرات التفاهة؟

إن خطورة التفاهة تكمن في سيطرتها على الحياة اليومية للبشر وتأخذ من جهد عقولهم الكثير فتجد أغلب الناس يقضون أغلب ساعات أعمارهم في جدال ونقاش وخصام أحيانا حول أجمل قميص وأفضل حذاء رياضي وآخر صيحات الموضة، بل يدخلون في صراعات حول أسباب سجن مغنية أو صورة لحبيبة لاعب مشهور، أو مشاهدة سمين يرقص ويتمايل ببطنه…، بل إن تأثيرها الأخطر يكمن في جعل التافهين قدوة للأجيال القادمة حتى أصبح الحديث عن الثقافة ضربا من العبث العقلي، والإنسان الحالي لا رغبة له في التأمل والتفكير ولا وقت له لذلك فلقد حاصره التافهون من كل حدب وصوب بالمشاهد وحاصروه بالصور حتى أصبحت الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير، وأصبحت الكتابة غريبة في العصر الراهن وغدت الكلمات متشردة تبحث لها عن مأوى بين الأنامل فلا تجد مكانا، فقد احتلت الصورة كل المواقع.

ومن أبشع صور تأثير التفاهة تشتت العلاقات الإنسانية، بانتشار الكذب والبهتان، وتبادل رسائل الكراهية والعنصرية (خاصة في كرة القدم)، والتدين الزائف والطقوس الغريبة، ناهيك عن ملاحقة وتقديس المشعوذين والدجالين، وأمام سطوة الشكليات والمظاهر، تلاشى الحياء والصدق، واختفى الاحترام والتقدير، ولم يعد الأب يقدر على تربية أبنائه، ولم يعد المعلم يستطيع تعليم تلامذته، ولم يعد الخطيب يجد آذانا صاغية تستوعب معنى القيم الإسلامية، وبفقدان بوصلة القيم فقد الإنسان إنسانيته وذاته وعقله وحتى معنى وجوده، فكيف نتجنب إغراءات التفاهة؟

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ” أميتوا الباطل بالسكوت عنه”، ونحن كمستخدمين للمواقع الاجتماعية علينا تجاهل هؤلاء كي لا يزداد حجمهم؛ فخطورتهم أصبحت في أنهم أصبحوا قدوة للأجيال المقبلة؛ وكانت أكبر حملة مواجهة للقضاء على الظاهرة في الغرب بإطلاق حملة ” لا تجعلوا من الحمقى مشاهيرا”، لكن لا يمكن أن نحارب ظاهرة تقوم على الجهل دون محاربة الجهل نفسه في بلداننا الإسلامية.

في الختام إن التحرر من سيطرة التفاهة مسؤولية الجميع إذا ما أرادوا إنقاذ الإنسان، فالمسؤولية عن إنقاذ الذات هي في النهاية مسؤولية عن إنقاذ الكل، فعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب، بل هو بالحقيقة مسؤول عن جميع الناس كما يقول سارتر، وهذا ما هو فحوى قوله الله تعالى: ((وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً)) صدق الله العظيم.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.