مصطفى ملو
-إهداء إلى:
– مرشدي و دليلي عمي موح أيت موح
-عائلة لحسن أيت عدي دوار إمزيلن
– تلامذة إعدادية ألمدون الذين لا يعرفون معنى العطلة الصيفية
-كل من تحمل فضولي و صبر على أسئلتي المتكررة أحيانا و الغبية أحايين أخرى
و أنت تتجول هذه الأيام(من أواخر ماي إلى أواخر يونيو) في حقول واحة مكون,حيث الجو معتدل لا تتجاوز حرارته القصوى 30 درجة,تتناهى إلى مسامعك أهازيج النساء و زغاريدهن القادمة من بعيد,و يعطر أنفك أريج أزوكني (الزعتر) و إزري(الشيح الذي تضعه “العاملات” على رؤوسهن لاعتقادهن بأنه يهديء الأعصاب و يذهب الإرهاق) و نبتات أخرى مختلف ألوانها تفوح منها رائحة زكية.
إنه موسم الحصاد و الكل في حركة دؤوبة كخلية نمل تصارع الزمن مخافة أمطار رعدية مباغتة أو ريح عاتية تشتت ما حصدته و تقذف به في كل الأرجاء.النساء يحصدن و الرجال و الأطفال يجمعون ما تم حصده ثم ينقلونه بالبغال و الحمير و حتى الحافلات الصغيرة و الشاحنات نحو البيادر في انتظار الدرس.
الحصد في واحة مكون يتم بشكل تقليدي تستعمل فيه المناجل(Imegran) نظرا لصغر الاستغلاليات من جهة و للطابع الجبلي للمنطقة مما يصعب مهمة وصول الحاصدات االحديثة إليها من جهة أخرى.
يسمى الحِمل من المحصول الزراعي(Tichimmut),ويلاحظ أن النساء قد يشاركن في عملية نقل Tichimmut على ظهورهن من الحقل نحو البيدر دون الرجال خاصة بالنسبة للعائلات التي تفتقر إلى “وسائل نقل أخرى كالبغال و الحمير”,والغريب هنا أن الرجل لا يجرأ على القيام بذلك,أي على حمل المحصول على ظهره,لأن هذا العمل من اختصاص النساء مما سينقص من رجولته و يجعله محط السخرية و الاستهزاء إن هو أقدم عليه,و الأغرب أن أول من سيسخر منه هن النساء أنفسهن !
في البيت عمل آخر,فهناك من يعد الفطور و الغذاء و حتى العشاء للعمال,إذ بعد ثلاث أو أربع ساعات من العمل المتواصل الذي يشرع فيه باكرا يأتي إلى الحقل الفطور المكون من خبز و عسل حر و زبدة بلدية و بيض و شاي و زيت زيتون,و بعد منتصف النهار يبدأ التعب بالتسرب إلى “الحصّاد” فتبعث إليهم “لجنة التغذية” المقيمة في البيت ما يسدون به رمقهم من طاجين يسترجعون به طاقتهم,فالنهار ما يزال طويلا و العمل لا ينتهي إلا مع هجرة الشمس نحو مثواها الأخير !
إنه موسم الحصاد الذي له طقوس خاصة,إذ لابد من استغلاله لتخزين و توفير قوت فصل الشتاء الذي يكون مجرما في هذه المناطق.
تقتصر عملية الحصد-كما قلنا سلفا- بالجنوب الشرقي عامة و عند قبائل مكون خاصة في الغالب على النساء,بينما يتولى الرجال مهمة قيادة “قوافل البغلات” نحو البيادر,و يرجع السبب في ذلك-ربما-إلى الاعتقاد السائد بالمنطقة و الذي يفيد بأن الحيوان الأنثى (البغلة مثلا) تنصاع بسرعة للإنسان الذكر(الرجل) و العكس بالعكس,أي أن الحيوان الذكر(الحمار مثلا) يطيع بسرعة الإنسان الأنثى(المرأة),إلا أن ذلك يتناقض مع “الأسطورة” المنتشرة خاصة عند قبائل أيت عطا و التي تقول”إن سبب وجود اللون الأبيض في الجزء السفلي لوجه الحمار,أنه بينما كان ينوي الدخول إلى الجنة رأى فيها نساء,فقرر التراجع”و هذه الأسطورة مدلولها أن المرأة في هذه الربوع تبقى أقل شأنا من الرجل إلى درجة حتى الحمار يكرهها,بل إلى حد رفضه السكن في الجنة جنبا إلى جنب معها(المرأة),فكيف له إذا أن يطيعها؟!!!
غير أن كل هذه الاعتقادات و الأساطير بعيدة عن العقل,ليبقى التفسير الوحيد لتكليف الرجال بقيادة البغال دون النساء أن قوتهم الجسدية تمكنهم من التحكم فيها و فيما تحمل و ضبط تحركاتها,بينما تتكلف النساء بالحصد في إطار توزيع المهام.
لعملية الحصد أغاني و مواويل خاصة ترددها النساء فيما بينهن, و هي عبارة عن (Timnadin شعر النقائض) التي غالبا ما تبتديء بمقدمة دينية من قبيل:
-Sella 3la Mohmed Ayd yufn iwaliwni,Sella 3la Mohmed Ayd yufn iwaliwni
و ترجمتها:
-الصلاة على محمد خير الكلام,الصلاة على محمد خير الكلام.
و تنتهي القصائد المغناة بأمنية أن يعم الخير و البركة في العام المقبل:
-Ayiger s l3eqbal digh n imal
-يا حقل موعدنا العام القادم.
لا يمكن في هذه الربوع تصور عملية الحصد بدون مواويل و أغاني تتنوع مواضيعها بين ما هو ديني و ما هو رومانسي و ما هو “نقدي ساخر”…إذ يمكن اعتبار الغناء أثناء هذه العملية بمثابة نوع من الدعم النفسي ينسي المرأة في تعبها البدني و يخلق لديها نوعا من الصبر و التحدي,خاصة إذا كانت الأغنية تنتقد المتكاسلين,المتقاعسين,الآكلين من مجهود غيرهم !
فيما مضى كان الدرس يتم بطريقة تقليدية تعتمد على ربط مجموعة من البغال أو الحمير بعمود خشبي يسمى(بوكجدي Bougjdi) مثبت وسط البيدر (ArnarأوAnrar) ثم يتم الطواف بها على المحصول من طرف رجل يسمى (Amnkher n Takka أي شمّام الغبار في إشارة إلى تعرضه للغبار المتطاير من التبن)أو أطفال يركضون خلفها و يهشون عليها بعصا لمنعها من التوقف أو عض بعضها البعض صائحين بكلمات يعتقدون أن البغال تفهمها من قبيل(AKel,AKelأي دوسي,دوسي) في حين يتولى رجال آخرون عملية القلب(Asnqleb) بالمذراة (Tazrt) بين الفينة و الأخرى حتى يتم الدرس(Arwa) بشكل جيد,و يراعى عند ترتيب الحمير أو البغال قوتها,إذ يربط البغل أو الحمار الأقل قوة مباشرة ببوكجدي(Bougjdi),أي عند مركز دائرة الدرس التي تكون صغيرة عند هذه النقطة مما يمكنه من الدوران بمجهود أقل,في حين يكون الأكثر قوة في آخر السلسلة أين تكون الدائرة أوسع و المجهود المطلوب أكبر,و تشكل فترة الدرس لحظات استثنائية بالنسبة للأطفال الذين تغمرهم الفرحة و السرور لممارسة هويتهم المتمثلة في ركوب الحمير .
كما لعملية الحصد أغاني ترافقها فللدرس أيضا مواويل يرددها الرجال وهم يركضون خلف البغال و التي لا يستقيم الدرس بدونها,و من أمثلة ذلك:
-Ayrut,Ayrut a rebbi l3alamin,Aynughed,Aynughed a rebbi l3alamin
-على بركتك يا رب العالمين سيدرس,ببركتك يا رب العالمين سيلين
-Bismillah wa bi llah qudemna Rasullah,sihl yallah yamulana,bark yallah ya mulana
-باسم الله و بالله,قدمنا رسول الله,سهل يا الله يا مولانا,بارك يا الله يا مولانا.
بعد انتهاء عملية الدرس تأتي عملية الذر(Azuzr) التي لابد لنجاحها من توفر ريح طفيفة تفصل التبن(Alim) عن الحب,لذلك كانت هذه العملية تستغرق مدة قد تصل إلى شهر إما في حالة استقرار الجو و غياب الرياح و إما في حالة قوتها مما يجعل الذر مستحيلا لأن قوة الرياح تقذف التبن بعيدا و تشتت الحبوب.
في مرحلة الذر يردد الرجال أغاني خاصة كطريقة-على ما يبدو-للتسلية و الهروب من تعب العمل و من نماذج ذلك:
-Tazrt ayd isrwatn a Leghchim
-المذراة هي التي تدرس يا جاهل(هنا إشارة إلى أهمية المذراة في عملية الدرس خاصة أثناء القلب و التي لا يمكن للدرس أن يتم بدونها)
-Ar izuzur udar Amttar
-و الرجل هي التي تجمع كومة الحبوب(إشارة إلى أهمية استعمال الرجل في جمع الحبوب أثناء عملية الذر)
كان العمل جماعيا و بدون مقابل في إطار ما يسمى((Tawizi,فاليوم سنتعاون على الدرس عند “أيت فلان” و غدا عند”أيت فلان” و بعده عند “أيت فلان”و هكذا !
كما كانت عملية الدرس و الذر تتم في أجواء من الفرح و التعاون بين كل أهل القرية المسرورين بما تجود به عليهم أرضهم من “مصدر الحياة” قمح و شعير,وتذبح الذبيحة(Tamghrust) احتفاء بموسم الحصاد و إكراما للمتعاونين على الحصد و الدرس و الذر و هم يخاطبون بعضهم البعض (Aytetcham g Lman الذي يمكن ترجمته ترجمة نسبية إلى بالصحة و العافية(.
اليوم و إن كانت هذه العادات ما تزال صامدة أمام التطورات التي عرفها “المجتمع المكوني”,إلا أنها ماضية في التراجع,حيث أصبح الدرس في الغالب الأعم يتم بدّراسات عصرية تكترى ب 130 إلى 150 درهما للساعة,كما أصبح العمل مؤدى عنه نتيجة تقلص علاقات التعاون و ارتفاع تكاليف الحياة و صارت عملية الدرس التقليدية تقتصر على عائلات معدودة على رؤوس الأصابع إما لقلة ذات يد أصحابها و عجزهم عن كراء الدَرّاسة العصرية أو لأن بعض الأبقار و النعاج تعاف أكل التبن المهشم بطريقة عصرية,إذ يكون رقيقا جدا و تفضل التبن الناتج عن العملية التقليدية الذي تكون سيقانه أكبر حجما.
و يمكن الإشارة في هذا السياق إلى أن دواوير أوزيغمت تعتبر حالة فريدة في الدرس التقليدي,إذ ما على أبناء البوادي الراغبين في تذكر أيام الزمن الجميل,أيام الصبا و الركض خلف البغال سوى التوجه نحو هذه الدواوير,حيث سيصادف مشاهد لحياة بدوية بسيطة في طور الانقراض.و يرجع السبب في صمود هذا الأسلوب من الدرس بهذه الدواوير إلى صعوبة ولوج الدّراسات العصرية إليها.
يرخي الليل بغطائه على كل الأنحاء,فتدخل هذه القرى المتناثرة هنا و هناك في نومها مبكرا كما استيقظت مبكرا و لا صوت يعلو على صوت نقيق الضفادع و خرير الوديان التي تخترق أراضيها,و غدا يتكرر نفس السيناريو إلى أن ينتهي الحصاد و تكدس أكياس القمح و الشعير في “أحانو نلخزين” أو(Tasqimmut n imndiأوAghellay) و التبن في “أحانو نواليم” أو(Tizghit n Walim).
هذا في الأيام العادية,أما في حالة تزامن الحصاد(Tamegra) مع أيام رمضان كما هو الشأن بالنسبة لموسم هذه السنة,فإن البرنامج ينقلب رأسا على عقب,حيث تبدأ عملية الحصد من طرف النساء في ساعات مبكرة جدا و التي لا تدوم طويلا قبل الانصراف لأخذ قسط من الراحة استعدادا لأشغال البيت في حين يشرع في عملية الدرس بعد الفطور أو بعد صلاة التراويح مباشرة لينطلق من هنا و هناك “هدير” آلات الدرس التي تستمر في ازدراد ما يلقى لها حتى الساعات الأولى من الصباح كأنها معامل لا يهنأ لها بال إلا و قد فصلت القمح(Irden) و الشعير(Timzin)عن التبن الذي تفوح رائحته المميزة في كل الأرجاء,لتعود قرى “إمكون” إلى غطيطها بعد أن ملئت الأكياس و تكوم التبن في يوم رمضاني فريد !
المصدرمصطفى ملو
المصدر : https://tinghir.info/?p=9654