مصطفى ملو
إهداء خاص و خالص إلى الأطفال الآتية أسماؤهم نيابة عن جميع أطفال الجبل:
-عمر أمغار
-منال أيت بنداود
-خديجة أيت يوسف
-حفصة قاسي
-السعدية و حياة أيت يوسف
-سناء وسوس
-بهية عمراوي
…بعد مسيرة حوالي 8 كيلومترات انطلاقا من مركز إغيل نومكون وصلت إلى أكوتي أمجيال(أو أيت يعقوب) الواقع عند مدخل المضايق الساحرة التي سبق أن كتبت عنها.
من الضفة الأخرى للوادي,أي من أكوتي أمزدار(أو أيت شكو) سمعت ما يشبه أهازيجا أو أشعارا مغناة تصدح من بعيد !!
أحسست بنشوة غامرة معتقدا أن الأمر يتعلق بنسوة يرددن أحيدوس في حفلة عرس مما سيتيح لي فرصة مشاهدة “عرس مكوني” لأول مرة منذ قدومي إلى هذه الربوع.
دفعني الفضول إلى قطع الوادي و التوجه نحو مصدر الصوت و مع اقترابي منه شيئا فشيئا اكتشفت أن حدسي قد خانني,فالأمر لم يكن يتعلق سوى بأطفال صغار في كتاب قرآني,ضجيج و تلاوة لسور قرآنية مختلفة,عادت بي إلى تلك الأيام الخوالي التي كنا نتكدس فيها في الكتاب و نقبل كل يوم يد الفقيه الذي كان يعاملنا بقسوة رغم أننا كنا نقدم له “الفتوح” كل خميس,إضافة إلى البيض و الخضر و أجرته الشهرية التي يدفعها آباؤنا و امتيازات أخرى كثيرة,رغم كل ذلك لم يكن أحد يستطيع الرد عليه أو مناقشته عن سبب عقابه الشديد لنا,فالفقيه الذي غالبا ما كان يضاف إلى اسمه “سيدي” أو “مولاي”,كانت له مكانة خاصة عند الصغير و الكبير حد التقديس,بل حد نسج الخرافات و الأساطير,فأغلب سكان البلدة يؤمنون إيمانا قويا بأن الأماكن التي تطأها عصاه من أجسادنا الصغيرة,لن تأكلها النار يوم القيامة,و الويل لمن يجادل أو يشك في ذلك.كنا نحفظ دون أن نفهم كلمة واحدة مما نحفظ, وإذا عوقبنا فإننا رغم تألمنا جسديا نستمتع نفسيا بعقاب الفقيه لأنه سيخلصنا من عقاب الآخرة الذي هو أشد و أقسى !!
في باب المسجد وجدت طفلا صغيرا رفقة طفلتين أخريين شدهم الفضول إلي مثلما شدني إلى صوتهم الذي جذبني من بعيد,سألته:
-ما اسمك؟
-عمر
-و اسمك العائلي؟
-أمغار.
-هل أنت فعلا أمغار(تعني الشيخ أو الزعيم أو رئيس القبيلة بالأمازيغية) رغم صغر سنك,(قلت مازحا)؟
لم يرد على سؤالي و طفق يضحك,ثم توجهت إليه بسؤال آخر بعدما أخبرني بأنه و من معه تلاميذ في المدرسة:
-و كيف توفقون بين المدرسة و “الجامع”(يقال للكتاب)؟
-نقصد الجامع بعد خروجنا من المدرسة.
-كم لكم في الكتاب؟
-حوالي ثلاثة و خمسين.
تذكرت حينها أن العشرات من أبناء إغيل نومكون يتوجهون في مرحلة موالية إلى المدارس القرآنية في مدن شتى,إذ لا يكاد دوار يخلو من حفظة القرآن الذين هم في الغالب من المنقطعين(حتى لا أٌقول الفاشلين)في (المدارس العصرية).
بعد لحظات بدأت جموع الأطفال تهرول نحوي,معظمهن طفلات,عمر هو “الرجل الوحيد ” بينهن,أغلب الظن أنهم تركوا الفقيه و قرآنه بعد رؤيتي قادما من بعيد:
-مسيو مسي, Stylo,قبل أن ينهرهن “الشيخ عمر” :
-اسكتن,هذا ليس نصرانيا(يقصد سائحا أجنبيا),هذا أمازيغي مثلنا.
ما أن أتم عمر كلامه و ما أن تحققن من هويتي حتى أحسست بأن ملامحهن قد تغيرت,لقد أصيبن بالصدمة لأنني لست الشخص الذي كن يتمنين أن أكونه,أو قل لأنني لست (أرومي أي النصراني الذي سيعطيهم الحلوى و الأقلام…),استحضرت لحظتها كلاما لمحمد شكري في روايته الخبز الحافي و هو يتحدث عن بحثه اليومي عن لقمة يسد بها رمقه في الأزبال حيث قال ما معناه:”زبل النصارى حسن من زبل المسلمين” و حزرت أنهم يقولون في قرارة أنفسهم نفس الشيء,يقولون جميعا و بصوت واحد:
-يا لتعساتنا ويا لسوء حظنا,مادام الأمر يتعلق بمسلم !!
مرة أخرى عاد بي “الفلاش باك” إلى ذلك الزمن البعيد,زمن الطفولة أين كنا نهرول نحو سيارات السياح(إرومين=النصارى) أو دراجاتهم النارية التي تقصد مناطقنا,نطلب منهم الأقلام و الحلوى,كان ذلك في منتصف التسعينات,كنا ننسى الفقيه و نتحرر مما تقوله الآيات التي يلقننا عن “الكفار” التي كانت ربما الكلمة الوحيدة التي كنا نفهم,و نجري بأقصى ما نملك من سرعة صوب “الكافرين أو الكفار أو المشركين أو المنافقين…تعددت الأسماء و المعنى عندنا واحد” الذين لم يكن يهمنا كفرهم و لا نبالي بمصيرهم الذي يذكرنا به الفقيه يوميا,ما يهمنا هو عطاياهم التي لا نحلم و لو بجزء مثلها مع “المسلمين”.في تلك الأثناء تذكرت ذلك الشيخ الذي كان يقول لنا و نحن نركض في اتجاه “النصارى”:
-نحن كنا نرى النصارى فنهرب منهم,و أنتم ترونهم و تتسابقون نحوهم!! قبل أن يستدرك قائلا:
– و لكن هذا ليس بغريب في زمن أغلب شباب القرية هاجروا إلى بلدانهم(أي إلى أوربا),و الباقون يتمنون ذلك !!
الآن نحن في 2015,المشهد لم يتغير سوى أننا كنا أبناء صحراء مهمشين و هؤلاء أبناء جبل منسيين!!
ودعت منال و عمر و خديجة…بعد أن عاهدوني على الاجتهاد في الدراسة و بعد أن قطعت لهم مقابل ذلك وعدا بأنني سأزورهم عما قريب و سأجلب لهم الحلوى و الأٌقلام,و أتمنى ألا يتأخر ذلك!!
المصدرمصطفى ملو
المصدر : https://tinghir.info/?p=9138