تتحدث إحدى الأمريكيات المقيمات في باريس والمعجبة بالتربية على الطريقة الفرنسية كما تسميها،وتتلخص هذه الطريقة في مجرد 8 كلمات مفتاح لها من الدلالات التربوية والاجتماعية الايجابية ما يشكل الذوق العام والمكتسب المشترك للفرنسيين والفرنسيات والذي تغبطهم عليها هذه السيدة الأمريكية وأمثالها؟؟.هذه الكلمات هي كالتالي:
- كلمة صباح الخير(Bonjour): تحية طيبة يلقيها الطفل الفرنسي بالضرورة واعتيادا على والديه وكل من هو داخل البيت أو خارجه،حتى إذا جاءهم ضيف كان من الضروري أن يسلم عليه الطفل كوسيلة للخروج من الشرنقة الانفرادية وكجسر للتواصل مع الآخرين،وهو آداب غير مفروضة على الطفل الأمريكي مثلا؟؟.
- كلمة انتظر (Attend): لتعويد الطفل على التريث والانتظار والتأدب مع الآخرين في انتظار دوره معهم وعدم خرق الصف،أو في عدم مقاطعتهم أثناء الحديث في المنزل والمدرسة مثلا،مما يكسب الأفراد والناشئة تواضعا ويعطي للحوار والتعاون بينهم معنى؟؟.
- كلمة كن مهذبا (Sois sage): عبارة يعرف الطفل من خلالها إذا ما قيلت له من طرف أبويه أو مربيه أن حركيته زائدة وإزعاجه قد تجاوز الحدود أو يكاد،فيضبط نفسه على اللطف والهدوء،دون أن يعني ذلك أمره بالانسحاب بقدر ما يعني المشاركة الهادئة والهادفة؟؟.
- عبارة ينبغي التذوق (il faut gouter): دلالة على إتقان الأكل أو السلوك وعقلية ضرورة معرفة الأشياء على حقيقتها و تجريبها قبل الحكم عليها،كما تعتبر وسيلة تربوية لتحبيب المأكولات إلى الأطفال كبعض الخضروات التي لا يحبونها بحكم الذوق والمظهر الخارجي أو السمع والعادة ليس إلا ؟؟.
- كلمة توازن (Equilibre): ويقصد بها التوازن في تعلق الطفل بآبائه و اعتماده على نفسه،والعكس يعني التوازن أيضا في عيش الآباء دائما وأبدا مع أطفالهم وحق تمتعهم بلحظات حميمية او سفر ثنائي بعيدا عنهم أوسياحية جماعية مع غيرهم،وهو الأمر الذي لا يتربى عليه الكثيرون لا من الآباء ولا من الأبناء الملتصقون على الدوام،مما يغذي فيهم آفة تفكير وعمل الأباء مكان الأبناء حتى في أمورهم الخاصة؟؟.
- كلمة استقلالية (Autonomie): وتعني تعود الأطفال مبكرا على الاستقلالية وتحمل المسؤولية داخل الحدود،حدود مرسومة ومعلومة ومتفق عليها مسبقا،ولكن داخلها حرية شخصية كبيرة لاختيارات الطفل حسب ذوقه ورأيه واهتمامه،كضرورة تنظيم الغرفة الخاصة قاعدة،ولكن كيف ومتى،هناك استقلالية و مرونة ؟؟.
- جملة أنا من يقرر(C’est moi qui décide): أنا من يقرر في الأمور الحاسمة والمسؤوليات الكبرى،يقرر الآباء ليعرف الطفل الناشء حدود خبرته وإمكانياته،خاصة خارج أموره الخاصة. وقد يعتقد الكثيرون أن هذا المبدأ تسلطي وإقصائي ويكرس الوصاية ولو على القاصر وكبح قدراته وعدم الثقة به،ولكن الأمر يكون هو الحل المناسب في بعض المواقف التي كثيرا ما تتعب الطرفين لا لشيء إلا لأن الآباء لا يجرؤون على الإفصاح عنها ولأن الأطفال غير معودون على تقبلها؟؟.إذن المبدأ قد يريح الطرفين خاصة إذا كان بالصلابة اللازمة أو حتى بشيء من المرونة والتشاور والإقناع الممكن؟؟.خذ مثلا مرافقة الأشرار أو الإدمان على المخدرات والألعاب والأنترنيت إلى درجة يفقد فيها الطفل بوصلة التوقيت الطبيعي وينسحب من العالم الواقعي،ولا يستطيع الآباء فرض شيء على أبنائهم رغم يقينهم بأن ذلك ليس في مصلحتهم وسيدمرهم؟؟.
- عبارة (Cala boudin): وهي عبارة تقال للطفل عندما يأتي سخافة لينبه إلى ذلك،وبإمكانه أن يقولها بدوره وبكل حرية لآبائه أو أصدقائه إذا ما أتوا مثل ذلك،ليبقى المطلوب الدائم عند الجميع هو البعد عن الحماقات والسخافات والبحث الدائم عن جادة الصواب والنجابة والرصانة؟؟.
ورغم أن التربية على الطريقة الفرنسية ليست بالمثالية،خاصة من الناحية العقائدية والفكرية وحتى الأخلاقية والسلوكية،بما تتبناه من شطحات بعض رواد “التنوير”، وبما تبيحه من تذوق المحرمات محرمات الخمور والخنزير وتناولها حتى الثمالة أو العلاقات الإباحية بين الجنسين وإتيانها دون قيد ولا شرط، و”الريبرطوار” العنيف للسب واللعن والتحرش والاغتصاب،ناهيك عن الرفض ربما المطلق لهذه التربية والذي سرعان ما يجتاح الناشئة عند بداية معافستهم للحياة منذ المراهقة وانحرافاتها،ورغم ذلك فالدور التربوي والطلائعي للأسرة الفرنسية لا يضاهى ولا يناقش؟؟، وتبقى هذه السيدة الأمريكية لها مؤاخذه وحيدة على التربية الفرنسية وهي غياب روح المبادرة والمغامرة التي طالما أثمرت الشركات والمقاولات والمغامرات والثروات الطائلة عند الأمريكيين والأمريكيات،وذلك ربما راجع – تقول السيدة – إلى النظام التربوي للمدرسة الفرنسية والتي لا زالت تربي الطفل على كثير من الخوف والألم الذي يولد فيه الإحجام بدل الطمأنينة والمتعة والإقدام؟؟.
والشيء بالشيء يذكر،أرى أن تربيتنا الإسلامية مليئة بالمفاهيم التربوية الرائعة،آيات كريمات وأحاديث شريفة وسير فاضلة،ولكن كتربية وثقافة وكمشترك موحد ومناخ اجتماعي عام للمسلمين،لازلنا في حاجة إلى معالم بارزة وممارسات عملية شائعة ومميزة للطفل المسلم كمسلم الفكر والوجدان بفخر والممارسة والهوى باعتزاز؟؟.أصول الإيمان..أركان الإسلام..مختلف الآداب..المعاملة مع الذات ومع الآخرين..مختلف التربيات الحديثة الصحية والبيئية والجنسية والطرقية والفنية الجمالية والعلمية المعلوماتية…،ما حظ الطفل المسلم منها وإلى أي حد تصطبغ بها حياته أو يجد في المجتمع ما يشجع على ذلك أو يضمن له حقه فيه بغض النظر عن محيطه الجغرافي وفئته الاجتماعية وأصوله العرقية؟؟.
- لنا كتاب هو القرآن الكريم الموجه الأول لعلاقتنا و حياتنا،فكم يطلع عليه أطفالنا وكم يحفظون منه وماذا يتبعون من أوامره ويتركون من نواهيه، وما إستراتجيتنا وبرامجنا لذلك؟؟.
- لنا صلاة مفروضة علينا نستريح بها خمس مرات في اليوم،كم يتركها أطفالنا،ليس في الدوام المدرسي فحسب،بل حتى في الأزقة والشوارع وهم يلعبون و لا يبالون لا برفع الآذان ولا بمرور المصلين قربهم إلى المسجد؟؟.
- لنا آداب في التحية والسلام،في الاحترام والوقار حتى عند الخصام،في الأكل والشرب واللباس،ولكن المستقرئ للواقع يرى بوضوح أن سلوكاتنا في الغالب لا تمت إلى هذه الأخلاق الراقية بصلة،ولتأخذ السب والشتم واللعن بما فيها أو على رأسها وفي مقدمتها سب الرب وشتم الدين ولعن الوالدين؟؟.
- لنا تحديات معاصرة،كعولمة الميوعة والانحراف والعلاقات الإباحية،والتدخين والمخدرات والعنف والإرهاب،الغزو الإعلامي الموجه و الإدمان على الإعلام الإلكتوني الفاسد المفسد، وعلى الاتكالية والاستهلاكية وضعف المردودية،ضعف المواطنة والعزوف عن قضايا الأمة،قضايا الهوية والقيم واللغة والمشاركة والإبداع والحقوق،كيف سنحمي منها أطفالنا ونحن بطوقها مثيدون وفي وحلها غارفون،ولا أراها إلا ستهلك بعدنا الأجيال والأجيال؟؟.
- لابد من جهد تربوي معاصر يرتب الأمور ويبسطها كأبجديات وبديهيات واجتهادات معاصرة حتى ينشأ عليها النشء بلغة العصر ويعرف بها بين كل أطفال العالم كما عرف أباؤه ممن نشروا الدعوة وفتحوا الفتوحات بل أجبروا المستعر رغبة منه لا رهبة على الدخول في دينهم بمجرد أخلاقهم،أخلاق الصدق والأمانة والجد والاجتهاد…،المفعومة بشعائر الصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاع؟؟.
- وختاما،أنا لا أعمم طبعا،ولكن أتساءل فقط كيف حال أسرنا مع آداب التحية والسلام والاستئذان؟ وآداب المأكل والمشرب والملبس؟ آداب الطلب والشكر عند الأخذ والعطاء؟ التدريب على عبادة الصوم والصلاة والصدفات؟ العلاقة مع الله ومع الذات والآخرين…الإنسان والحيوان والبيئة والملك العمومي؟ قيم الحياة الإيجابية من الحوار والتعايش والاجتهاد والمسؤولية والإنتاجية بدل الاستهلاكية والهوية بدل الاستلاب؟ التربية على الحس الوطني والقومي والاهتمام بالقضايا الإنسانية العادلة ؟ مراعاة المراحل العمرية للطفل وضرورة تمتعه بها وتلبية حاجياته و مراعاة حدود تكاليفه؟ روح العمل المدني التطوعي والانخراط في مختلف الهيئات التنموية؟ الانتماء الفعلي إلى الأسرة وحق التضامن والشعور بالدفء والحميمية بين أفرادها بدل الاغتراب والجفاء والعزلة والأنانية؟ ثقافة التعامل الواعي مع الإعلام والفن والرياضة والدراسة أو الحرفة؟ التوفر على هواية ممتعة ومفيدة معاصرة كالقراءة والكتابة ومعرفة اللغات والتقنيات؟ حق اللعب والترفيه المباح ممارسة فردية أو جماعية لا فرجة فحسب،وفي بيئة تربوية ثقافية اجتماعية سليمة تتبادل فيها القدوة بين الكبار والصغار؟؟.
ومن غير هذا كيف نصبو إلى مجتمع منشود وأطفال أمتنا ليس في حديثهم مثل تلك العبارات التربوية الفرنسية الجميلة،أوغيرها عندنا وهو كثير لو فعل كما قلنا من مثل:”السلام عليكم..وعليكم السلام..من فضلك..لو سمحت..أرجوك أريد كذا..أومن فضلك ساعدني في كذا..آسف..أعتذر..ليس من حقي بل من واجبي.. جائز حلال ولا يجوز حرام..حسنا فعلت فشكرا لك…،كلمات سحرية تربوية إيجابية طالما حث عليها الإسلام،وقد ننتظر شيوع هذه الثقافة من طرف المسجد أو المدرسة أوالإعلام والجمعيات..،و هي لا تستثنى من ذلك ولكن سننتظر وننتظر،لأن هذا دور الأسرة بالأساس،ولا أحد سيقوم بدورها مهما كانت أعذارها وإكراهاتها،لا ينبغي لها أن تقدم الاستقالة من أدوارها التربوية الطلائعية، فلتخفف ما أمكن ولتقاوم ولتتحدى لعلها تكون هي القدوة والبيئة التربوية المطلوبة ولا تفسدن عليها الظروف القاسية واجب تربية الأبناء ومتعة إسعاد نفسها وأبنائها ووطنها والعالم،أساسا بالعطاء التربوي والعطاء التربوي قبل كل شيء؟؟.
الحبيب عكي
المصدر : https://tinghir.info/?p=816