تمهيد:
تكتسي المرأة القروية المغربية في أذهان غالبية الناس صورة تلك المخلوقة الخارقة “أنثى بعضلات ذكورية”، تستطيع القيام بكل المهام تحت وطأة المناخ القاسي وبين التضاريس الوعرة وفي ظل الأعراف غير المنصفة، وفي غياب المصالح الإدارية الضرورية وتحت الفقر المدقع بدون ملل ولا كلل ولا شكوى ولا اعتراض..، إلا أن ما قد يلاحظه المتمعن في تلك الصورة أنها تحمل في طياتها جسما تغرس فيه المعاناةُ النفسية آثارا عميقة، ووجهها تحمل تقاسيمُه كل الآلام والأحزان التي لا يستطيع اللسانُ البوحَ بها، إما جهلا بالحقوق، وإما خوفا من العواقب، وإما رضوخا للنصيب.
1- المعاناة النفسية جراء الظروف الطبيعية:
تترعرع المرأة القروية (سواء المنتمية لأسر الرحل أو المنتمية لأسر مستقرة) في وسط جغرافي ومناخي يفرض عليها التحمل والتأقلم، فنراها تقوم بمهامها المزدوجة بين مهام البيت ومهام خارج البيت، متحملة حرارة شمس الصيف، وبرودة الشتاء، وهبوب الرياح، وغزارة الأمطار…ناهيك عن مشقة التنقل بين الجبال العالية، والطرق الوعرة، ومواجهة الحيوانات المفترسة، وغياب البنيات التحتية الضرورية، وانعدام المؤسسات التربوية والمدنية والاقتصادية…، ولعل أقسى صورة تجسد عمق المعاناة هي لحظة المخاض إذا حدث أن جاء الزوجة وهي تؤدي مهامها خارج منزلها، فلن تجد سوى الأحجار والأشجار والأنهار شهودا لعملية الولادة، والمشهد يتكرر ونحن نستحضر الآن الزوجة العشرينية الحامل التي حاصرتها الثلوج مؤخرا بين الجبال ضواحي ورزازات، ولولا تتدخل المروحية لكان مصيرها مجهولا، ولنا جميعا أن نتصور حجم المعاناة النفسية التي تقاسيها هذه الزوجةُ الصغيرة وأسرتها و سكان قريتها، بل إن ما يجول في خاطر كل زوجة قروية أصعب وأقسى مما يمكن نحن أن نتصوره.
2- المعاناة النفسية جراء الفقر والتهميش والأعراف:
– إن أغلب الأسر في العالم القروي تعاني من الفقر، وتتكبد المرأة النصيب الأكبر من المعاناة، بحكم تعدد المهام الموكولة إليها: تطبخ، تكنس، تربي، تحرث، وتحصد… كل ذلك بإمكانيات جد محدودة وبسيطة، لا آليات ولا أدوات، ولا بيت كامل الأركان (خيمة الرحل)، ولا مياه صالحة للشرب، وفي خضم هذه المسؤوليات والإكراهات، يصرخ الطفل الصغير بردا أو جوعا، ولا تجد له الأم إلا عينا بصيرة ويدا قصيرة.
– تتضاعف معاناة المرأة القروية في الجنوب الشرقي للبلاد على سبيل المثال ومعها أسرتها وذنبها الوحيد أنها تنتمي إلى منطقة جغرافية منعوتة بالمغرب غير النافع، صحيح أنه مصطلح تركه المستعمر، لكن غياب أو قلة المؤسسات والمصالح الضرورية في هذه المناطق، يعمق ويكرس المفهوم ويضاعف من مآسي المرأة بالخصوص وتسكنها مشاعر التهميش والتحقير والتمييز.
– قد يحدث أن تتعود الفتاة القروية على قساوة المناخ والفقر والتهميش، لكن النظرة التقزيمية إليها وحصر وجودها في العمل والإنجاب فقط، يجعل نفسيتها محطمة، ومن مظاهر هذه النظرة العنصرية حرمانها من مجموعة من الحقوق، كحق التعليم، بدعوى أنها أنثى ومكانها الطبيعي هو البيت، حيث تتعلم أصول الطبخ وتتدرب على أعمال الفلاحة والزراعة استعدادا للزواج، الزواج، إنها المرحلة التي قد تنتقل إليها الطفلة عروسا لعريس إما يقاربها عمرا أو يقارب عمر والدها مرغمة غير مدركة لهول المهام التي ستقوم بها، ولا عارفة لحلول المشاكل والمطبات التي قد تسقط فيها بسبب عدم استعدادها النفسي والجسمي، فبين ليلة الزفاف ويوم الإنجاب تجد الطفلة نفسها أماً طفلةً تربي طفلا، محرومةً من إشباع حاجاتها الطفولية، ومن المخاطر التي تثبتها إحصائيات وزارة الصحة أن أغلبية الحوامل القاصرات يتعرضن للإجهاض أو الموت أثناء الحمل، إضافة إلى أنه قد يحدث أن تصير طفلة مطلقة أو أرملة وبدون وثائق تثبت الزواج والنسب، وتلك سلسلة لمعاناة أخرى تعاني منها المرأة المنتمية لأسر الرحل بالخصوص، حيث لا سكنا قارا ولا عنوانا معلوما، إذ مجرد التفكير في تخطي عتبة القرية والتوجه إلى المجال الحضري لقضاء الأغراض المدنية أو الصحية أو القانونية.. يتوجب عليها الإدلاء بالوثائق القانونية كبطاقة التعريف الوطنية، شهادة السكنى، عقد الزواج، وشهادة ولادة طفلها…فتجد نفسها أمام القانون مسؤولة وضحية في الآن نفسه عن مصيرها، وتكتشف أن ما يزيد الطين بلة هو أميتها وجهلها للغة التواصل خاصة الدارجة المغربية وطريقة التعامل الإدارية مع هذه المؤسسات، إضافة إلى خذلان ولي أمرها أحيانا لها أو عجزه أو غيابه أحيانا أخرى، ولنا أن نتصور مختلف الاضطرابات النفسية التي ستعانيها هذه المخلوقة المخنوقة من كل الجهات.
أما الحديث عن تأثير الأعراف والعادات والتقاليد، فيجرنا لنبش مجموعة من السلوكيات غير الأخلاقية والتي تختلف حدتها ومناسباتها من قرية إلى أخرى، ولمنع مناقشتها بين أسر هذه المجتمعات فقد صنفت ضمن خانة “الطابوهات” والمحرمات، وعلى سبيل المثال إشهار عذرية العروس ليلة الدخلة أمام المدعويين ولحسن الحظ أنها ظاهرة لم تعد موجودة الآن، لكن هذا لا ينفي استمرار تعذيب المرأة نفسيا عندما يفرض عليها تقبل الزوجة لخيانة زوجها واعتبار الأمر حقه لأنه رجل، بل المعاناة تبدأ منذ تكوينها في رحم الأم فمجرد معرفة الزوج بجنس المولود يستعد للاحتفال المبالغ فيه بعقيقة الذكر في المقابل قد يقوم بحفلة متواضعة لميلاد أنثى وقد يظل وجهه مسودا يرثي حظه السيء، وأما الحامل بالأنثى فتكافأ بأنواع الترهيب والتعذيب لأنها أجرمت باختيار جنس مولودها، وتستمر معاناة المرأة حتى عندما تشيخ وتهن قواها الجسدية والعقلية لتتلقى الإهمال من فلذة كبدها ماديا ومعنويا، وضع يذكرنا بمساوئ الجاهلية للأسف ونحن ندعي ونتباهى بأننا مسلمون، صور لأبشع مظاهر التحقير لهذه الإنسانة ومع ذلك لا تستطيع حتى البوح والتعبير لأنها مواضيع محصنة بقيود ” الطابوهات “.
ومن أمثلة العنصرية التي يجب الوقوف عندها، نظرا لقساوتها وعدم إنسانيتها ومنطقيتها، هي حرمانها من حق الإرث، خاصة من جهة الإخوة، فلا الدين الإسلامي يحرمها ولا المساطير القانونية تمنعها، ومع ذلك عند المساءلة تسمع جملة ” هكذا وجدنا آباءنا يفعلون”، والذريعة أنها أنثى، وإذا تجرأت المرأة وطالبت بحقها، انهالت عليها الانتقادات والمقاطعات، ونُعتت بالظالمة، وصارت من المغضوب عليهم، فكيف ستكون نفسية هذه اليتيمة إن تنكر لها إخوتها وهي فقيرة ومحتاجة؟، وأكثر من ذلك قد يمنعونها من العمل أيضا!!
3-وضعية المرأة القروية التنغيرية:
تنغير إقليم ينتمي لجهة درعة تافيلالت بالجنوب الشرقي للمملكة، يقع بين إقليمي الراشيدية (135كلم) و ورزازات (165كلم)، ويضم مجموعة من القرى في كل من دائرة تنغير، دائرة بومالن دادس ودائرة أسول.
– تعاني المرأة القروية التنغيرية شأنها شأن باقي النساء القرويات المغربيات من تداعيات الظروف المناخية والفقر والتهميش والعقلية المتحجرة لبعض الآباء، إلا أن الحقيقة أن المجتمع المدني الغيور على المنطقة بدأ منذ فترة ليست بالوجيزة في تغيير العقليات وصون كرامة المرأة (212 جمعية وتعاونية حسب إحصائيات أبريل 2022 متنوعة الاهتمامات)، ويمكن القول أن المرأة التنغيرية الآن بدأت تتعافى من المآسي القديمة إذ تجاوزت حلم الدراسة وتعلم صناعة … وأصبحنا نسمع بطفلة تجتهد لتكون طبيبة ونرى أما تساعد أبناءها في إنجاز الواجبات المدرسية، وجدة تنافس صديقاتها في حفظ القرآن الكريم، وأرملة تحترف صناعة تقليدية… وبذلك صارت فاعلة في تنمية المنطقة، كيف لا وهي الآن مستمتعة بوجودها معنويا وماديا كإنسانة وكمواطنة، يكفي أنها المرأة القروية التي لها السبق على مستوى الجهة في التمتع ببقعة من الأراضي السلالية، ويرجع فضل هذا التغيير إلى وعي شباب المنطقة بقيمة المرأة، وبمساهمة الدولة من خلال تنزيل اللامركزية وتقريب مجموعة مهمة وضرورية من المؤسسات والمصالح، كمندوبية التربية الوطنية (التي تمكنت بمجهود جبار من منح حق التعليم للرحل – شاهد حلقة آفاق بالقناة الثقافية الرابعة حول تعليم الرحل-)، مندوبية الصحة (دار الأمومة)، مندوبية الأوقاف والشؤون الإسلامية (خلية المرأة)، مندوبية التعاون الوطني، مؤسسة محمد الخامس للتضامن، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تمول جمعيات الرعاية الاجتماعية… مجهودات تقر بها الساكنة، لكنها مازلت تطمع وتطمح أن تتواصل الجهود لتعم جميعَ الدواوير بالمنطقة.
خاتمة:
إن القرية جزء لا يتجزأ من الوحدة الترابية للمملكة، وإن المرأة عنصر مهم لبناء وصلاح ورقي المجتمع، وإن أبناء القرية ذكورا وإناثا يتمتعون بطيبة نادرة وبذكاء ملفت وبمهارات عالية، لذلك يتوجب على الجميع كإعلاميين وسياسيين وفاعلين جمعويين ومواطنين كل من موقعه المساهمة لإزالة الفوارق بين المدينة والقرية، ومنح المرأة القروية حقوقها التي كرمها بها الشرع الإسلامي، وسنها المشرع المغربي، دون تمييز ولا تهميش.
يقول الله تعالى في سورة الحجرات الآية 13:
((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)) . صدق الله العظيم
المصدر : https://tinghir.info/?p=68282