يقتضي التدبير الجيّد للسّياسات الترابية إرَادة جيّدة وترْجمةُ صادقة لانتظارات المُواطنين والمُواطنات، حتى يَتراءى كل ما هو مُمكن مُمكنا ويغدُو واقعيّا يتلمّسه الناس في حياتهم ودرُوب معيشتهم، وقد يجْتهدُون بشكل جمَاعي ومُشترك في تذليل الصّعوبات المطرُوحة، كل من جهته؛ مُنتخبين ومُواطنين «مُجتمع مدني» والسّلطة المحلية، لكنّ غيابَ هذه الرّؤية الواعِية والنزُوع نحْو النّفاق التدبيري وغلق مَنافذ إدْراك الحقيقة، يجْعلُ كل ما يُنجز من بهْرجة وطقوس احْتفائية تمَسْرُحًا بئيسًا وهرُوبا نحو الأمام في لعْبة سِياسية لا يفعلها إلا عبَدة الطاغُوت.
مُناسَبة هذا الكلام هي مَا يعرفه إقليم تنغير والجنُوب الشركي عُموما من هيستيريا المِهرجانات والاحْتفالات المُنافقة، كأن واقع النّاس جنّة ولا يشكُون مخْمصَة ولا بُؤسا. يأتي كل هذا تزامُنا مع ارْتفاع الأسْعار وموادِ العيْش كلها، بل حيرة الناس في وجُودهم نفسه. فبأيّ نفس و«خاطر» يرقصُ هؤلاء ويمْرحُون؟ وأغلبهم لا يمْلكون ثمن دواء «الحمّى» التي تعتريهم كل ليلة حينمَا يعودُون أدراجهم نحو كهُوفهم (…) أنا لا أمارسُ السّياسة ولسْتُ سياسيا يلوك العبارات الفضْفاضة دُون تفعيلها، ولا أطمحُ إلى ذلك، لكن واجبُ النقد وتوعية الناس والدفاع عن حُقوقهم، هي مَهمة كل مُثقف فاعلٍ يُمارس وظيفته في المُجتمع، ويتقاسم أفكاره مع الناس في سَعْي حثيثٍ ودائم نحو تجويد أو تغيير ما يُمكن تغييره.
وإذا لم تمتلك -عزيزي القارئ- الوقْت الكافي لقراءة رواية «البؤساء» لفكتور هيجو، فيكفيك النظر البسيط إلى واقع الناس مع هذه المهرجانات‘ وفي هذا الوقت بالذات لتبصرَ عيانا أسْرابا من البائِسين والبائِسات يتعشْعشُون في حياة ضنكٍ دُون خلاص. وترشيدا للكلام لنْ أتحدّث عن ما شهدته سَاحات بلاد «إغيل نمكون» و«قلعة مكونة» و«بومالن دادس» وبلدة «تنغير» و«تودغى العليا» و«تاغزوت أيت عطى» ، ولا حتى «ألنيف» وغيرها من منصات الغناء وتقديم حزم من الضّجيج والفوضى المنظم خلال الأسْبوعين الماضيين، لكن سنبئر الحديث عن مهرجان جماعة «أسُول» كعينة للاسْتشهاد وهي مسألة جائزة للتعميم والإسْقاط.
تنص التوجيهات الوزارية التي حثّ فيها وزير الداخلية مُؤخرا على ترشيد النفقات وحُسْن التدبير، الالتزام بأقصى ما يمكن بهذا الخصُوص، وعليه فكل تدبير زائِد ومجّاني لأمْوال الشّعب ومَوارد البلد، يُعدُّ تجاوزا مَعيبا وخرُوجا عن القانون، يسْتلزم بالضّرورة المُحاسبة ثم ترتيب الجزاء.
في جماعة منكُوبة تنْمويا مثل «أسُول» حيث انقطاع الماء الصّالح للشّرب وغِياب الطّرقات المُعبّدة والمسالك المُوصلة بيْن الدّواوير وانتشار الفقر والهشَاشة، مع ما يَتبع ذلك من بُؤس الواقع واعتلال دينامِية المَجال كلّه، فضْلا عن رَداءة الخَدمات المُقدّمة من جانِب المُؤسّسة المُنتخبة كشريك فاعل في التنمية الترابية المُسْتدامة، في سِياق هذا الواقع المحلّي الموبُوء، لا يسْتقيم أنْ نتحدّث عن مِهرجان باذخ لليال ثلاث، تذبحُ فيه أمْوال عمُومية سِفاها وتشتّت على الخِلان بلا حسيب. فالضرُورات أولى من التحسينات والكماليات، والفرَحُ لا يُمكن أن يكون تامّا وطبيعيا إلا بعْد تمَام النّعمة واسْتقامة الحَال والتدبير.
السّاكنة المحلية ستفرحُ بهذا المهرجان – الذي لمْ يُراعي حتى مشاعِر حُزن الآخرين في الذين رحلُوا عنهم مُؤخرا- وستنتشي كثيرا لمّا ينعم التلاميذ بالنقل المدرسي وتعميمه، وينقل المرضى بما يَحفظ كرامتهم، وتدبّرُ الميزانية الجماعية والقِطاعية دُون ولاءات ولا عصبية، ويحقُّ للجميع الاسْتفادة من الخدَمات العمُومية سَواسية، وكذا التباري على المَناصب المُؤقتة والخَدمات المُوازية في الجماعة بكل شفافية، آنئذٍ يُمكن أنْ نتفق على مَا يُمكن أن يُسْعد السّاكنة ويُبهجهم حقا، وإذا اقتضى الأمر حِينئذ أنْ نقيم كل مساء منصة نرقصُ فيها حتى الصّباح كألف ليلة وليلة فذاك سائغ ونقبله.
فمن أعطاب هذا الوباء/ المهرجان نجدُ أن المجال الثقافي لمْ يسْلم بدوره من التدبير الأعوْج لمُنظري مهرجان الجماعة، حيثُ دأب اجْتهادهم ككل موْسم إلى اسْتقطاب واسْتجداء «نخب» غير محلية لتقديم الفقرات الفنية وتنشيط ندوات بَاهتة تسْرق عناوينها من يافطات مُجاورة، ليس فيها ما يُسْتفاد غير ما يتبعُها من ولائِم دسِمة وكؤوس باردة. أليس في المجال المَحلي نُخبا وكفاءات قادِرة على المُشاركة والتأطير والإبداع وإفادة الناس من عِلمهم وتخصّصاتهم؟ لِم الخوف من الفاعل المَحلي واسْتبعاده حد الاسْتعداء؟ أيكُون السّبب حَقا هو الخوْف من إشراك من يعرفُ الأسْرار وما في «الخنْشة» من فضائح و عيُوب؟
أعتقد أن التنمية المَجالية الحقيقية الثقافية تحْديدا تقتضِي الانفتاح أولا على الطاقات المحلية وتشجيعها وتثمِين المُشترك بينها، وبعدها يُستحْسن إشراك الآخرين والتلاقح البناء مع مُنجزاتهم. فقد نبّهنا إلى هذه المسْألة مُنذ سنوات، ونلاحِظ باسْتمرار كيف أنّ مُلتقيات عديدة بقربنا تحتضن نُخبها المحلية وتفخرُ بها، وأخْشى أن يكُون جواب السّؤال الأخير أعْلاه أحد دَعائم هذا الإقْصاء المقصُود، الذي تفضحُه صُور اللقاء الثقافي أمْس السّبت صبَاحا، حيث غابَ مُطلقا أبناء البلدة ومُثقفوها ومُتخصّصوها الكثر، في مشْهد معْطوب ومُسْتفز للجنة المُنظمة، وكأن «أسُول» وتخومها لا تلدُ من هم أجْدر بالحُضور والمُشاركة.
إن تحقيق الأهداف المرجُوة من كل نشاط كيفمًا كان، تلزمه الرّؤية المنهجية الصّادقة منذ البداية، فالتخطيط الجيّد يُحقق نتائج جيّدة، والعكسُ صحيح، ولكي لا نُنعت بالعدميّين والسّوداويين، فالمهرجان حاول جاهدا أن يَحتضن في الشّق الفني بعْض الطاقات الغنائية المحلية، وهذا أمرٌ محمُود مرْغوب فيه، لكنّ سُوء الوسَائل ورداءة تجهيزات الصّوت والمُكبّرات جعل مَقطوعاتهم المُوسيقية البارعة كمَن يطبّل على الجلد الأجْرب أو يُحدث تشويشا بمنشار على باب حديدي مُهترئ. أمر جعل الحضُور القليل المُتابع يجعلون أصابعهم في آذانهم ويولّون الأدبار. أكان ذلك مقصُودا لتقزيم تميّزهم؟ أمْ أنّ البحث عن الشّيء الرّخيص هو السّبب؟ الله وحده وجمَاجم اللجنة التنفيذية أعلمُ بالأمر.
خلاصة:
إنّ التنمية المَجالية الحقيقية لا تحْمِل قناعا ولا تُمارس نِفاقا، فهي صريحةٌ وبنّاءة، ولتحقيقها لا بُد من اتيانها من مضانّها والاتكاء في وضْع أسُسها على العُمَدِ المتينة التي تتحمّل الأثقال والمهمَّات الجسيمة، فكل زيغ عن ذلك لا ينتجُ في المُجتمع كله إلا أعطابا شتى، خاصّة إذا عرَفنا أنّ المعوّل في هذه التنمية هو بناء الإنسان نفسه الذي هو مُنطلق التنمية ومُنتهاها.
فإذا ضاعت اللبنة ضاع كل شيء، وكل اجْتهاد بعده في الاصْلاح سيصير دُون جدْوى هبَاء منثورا. صحيح أن غيرتنا على الشأن المحلي وعلى تنمية المنطقة – كفاعلين جمْعويين وحُقوقيين- هي ما يدفعُنا كل مرّة إلى الكتابة والاجتهاد في الاصْلاح قدر ما نسْتطيع. غير أن هذا الإصْلاح المنشُود لن تكتمل أوتاده، ويظل مشرُوطا بالتعاون والتشارك والتواصل الحمِيد رغم كل الاختلافات الطبيعية بين أفكار النّاس ومُيولاتهم ومرجعياتهم.
…..
المصدر : https://tinghir.info/?p=68123