الإرث الثقافي مكتوب كان أو شفوي, موجه أساسي لحياة الأمم, حاضرا ومستقبلا ووزنه لا يعادل وزن » ( محمد شفيق المسالك المعرفية بين التقليد و التجديد ) .أجمع المتخصصون في العلوم الإنسانية, على أن للبيئة دور بارز في صياغة الإرث الحضاري و رؤيته تجاه الكون, فهي رؤية بلورتها الطبيعة عبر الزمان.عنصرها الأساس سلوكات إنسان الجبال, و الأرخبيلات, و الغابات ,و حتى إنسان المدينة… ,على شكل إنفراد أو جماعات. حيث يعتبر الأرض بمثابة كائن حي, منه أنتج إرثا حضاريا يتأرجح بين الواقع ونوع من الخيال. يجمعه في قالب الثقافة الموروثة, و التي هي مقياس كل شيء, لأن الواقع لا يدرك إلا من خلال الموشور الثقافي . وهو ما اعتقده الأنثربولوجيين نظرة و رؤية و ضمير الإنسان, ما هو إلا رسابة و حكاية ثقافية, رسختها حركية مجتمعه أو قبيلته أو نقلها على التوارث و الشفاهة.
هنا سندخل إلى علم المعاش و الماضي, و المعتقد و الخرافة في الثقافة الإنسانية .هو ما صنفه السسيولوجيين ضمن الحكاية الشعبية, و هذه الأخيرة هي جنس أدبي, ثقافي, اجتماعي, تاريخي … أسطوري للإنسان, عبر محطاته التاريخية و الجغرافية و البيئية. أداتها السرد و الحكي من طرف السارد أو الراوي, أو الحاكي. لأحداث معاشة أو خيالية تجعل المتلقي يتأقلم و ينسجم و المسموع في سفر لكل الجوارح ,غالبا نهايته النوم .
تحتل الجدة مكانة بارزة في الحكي, وكل ما يحكى في ما قبل كان إبداعا جماعيا, لأنه ينبع من بيئة مشتركة تأثر و تتأثر بسلوكات و تفاعلات كائنات مختلفة الإنسان, و الحيوان, و الماء, و الشجر, و حتى الجامد … تبقى الحكاية الشعبية في الثقافة الإنسانية جنس أدبي أسطوري قديم قدم الإنسان. تجمع بين المتعة و الخيال و الفائدة الخلقية و المثل, وهي تأريخ شفوي للأمم, وأسلوب للتربية و التعليم, وتعالج قيمة الخير و الشر كمتناقضين لازما حياة شعوب العالم . بالإضافة إلى قيم الذكاء, و الحب و الكراهية و الأخوة و الأمومة, و الجمال و الخوف و الصبر و الإخلاص و التعاون و التضامن… لكن للأسف غلب و مازال يغلب عليها طابع الشفوية, ينقلها السلف للخلف.
و بذلك تشوبها الزيادة و النقصان بوعي أو بدون وعي. و أسوأ من ذلك تتعرض للتلف و النسيان, بسبب فقدان الجدات وكل من يحتفظ في ذاكرته بهده الحكايات. فقد صدق من قال » إن فقدان عجوز في قارتنا الإفريقية بمثابة إحراق مكتبة بأكملها « ( نيلسون مانديلا), و بسبب انغلاق باب التدوين كمعظم مكونات الثقافة الأخرى ( الشعر, القصة القصيرة, المسرح …) لهذا يستلزم البحث في الحكاية مثلا تدوين مختلف الحكايات التي تروى و استنقائها من الشوائب ,و محاولة تحليلها و استقرائها, و ضمها للمقررات الدراسية لمستويات دراسية مناسبة, مع وضع متخصصين في هذا المجال .
من المجال العام إلى المجال الخاص ,مع درجة كبيرة من الائتلاف و قلة الاختلاف بين القبائل الشمال الإفريقية, في صنف الحكي و السرد. خطه الرابط الأسطورة و الخيال الواقعي من ثقافة واحدة و موحدة. تعتبر قبائل الجنوب الشرقي للمغرب ضمن العام , وشم (بضم الواو ) ارثها و تاريخها وثقافتها بحكايات و قصص و أحجيات , لا تخلوا أن تكون موجهة أساسية لإرث هذه الفئة . وبحكم المجال المتميز بالجبال و الصحاري, و الأنس و الوحشة ,و شساعة الجغرافية , وهامشية القبائل داخل أو خارج ثقافة الانغلاق, دون أن ننسى الخوف من الحيوان المفترس, و الغير المرئي و الغريب, و عقدة تفسير و فهم ألغاز البيئة المحاطة… كلها قواعد و أسس بني عليها مجتمع متجمع أو منفرد, نهاره عمل و نضال لقوة العيش وليله أحاديث و حوارات و حكايات … هذا الهامش من أفريقيا, وهذا الهامش الأدبي ،أسميه الهامش لأنه لم ينل حقه من عملية التأريخ في التاريخ الوسيط, و التاريخ الحديث, أما التاريخ القديم فالجدات هم المرجع و المصدر و المكتبة بحكايتها. و هكذا يبقى الجنوب المغربي الشرقي ضعيف المصادر و المراجع لأسباب ذاتية و موضوعية (…) ماعدا بعض المقالات و الكتابات التي تختفي بين صفحات الجرائد, إلا أنه مؤخرا بفضل الوعي الثقافي الأمازيغي من طرف المهتمين و الغيورين, من الباحثين و الطلبة .
صدرت كتابات في مجالات مختلفة وفي مجال الحكاية الشعبية ، تترحب المكتبة الأمازيغية المغربية بصفة عامة ,و مكتبة منزل الجنوب الشرقي المغربي بصفة خاصة , بكتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان : » Contes berbères racontés à mon fils » و التي تعني باللغة العربية « حكايات أمازيغية أحكيها لإبني » للأستاذ الباحث علي حدوشي . انه عمل ممتاز سيلقى استحسان من طرف القراء ، كمحاولة منه لجمع الحكايات المهملة في الثقافة الأمازيغية، لضمد أو بالأحرى تداوي الجروح و الأوشام التي تنزف و تنخر الموروث الثقافي ،لقرون مضت أدخلته أبواب الإهمال و النسيان … حتى أصبح الشعب الأمازيغي خاصة الجنوب الشرقي المغربي يتيم الإرث الحضاري.
علي حدوشي من مواليد 1972 بإغرم ـ ن ـ أيت حمو أوريز أمجيال أسيف ـ ن ـ دادس ، منذ شبابه حمل على عاتقه مقتنعا و واعيا بهم القضية و الأدب و الفن الأمازيغي. له مساهمات جليلة في هذا الصدد ،ترجم مجموعة القصائد الشعرية لعمر أيت سعيد الى اللغة الفرنسية، وشارك في عدة أنشطة ثقافية في المغرب و خارجها ،مراسل و كاتب المقالات في العديد من المجلات و الصحف الجهوية و الوطنية و الدولية ،عضو في جمعية أزمز ببومالن دادس، وهو بصدد اصدار أخر حول تاريخ الجنوب المغربي بصفة عامة و دادس بصفة خاصة . …الكتاب الذهبي بالحرف اللاتيني، مادة أولية لانطلاق البحث و الإستقراء و الدراسة من شتى الجوانب اجتماعيا و انثروبولجيا و ثقافيا و سياسيا … و الترجمة للانتقال من عالم الشفاهة الى عالم التدوين، من أجل فهم بنية و ثقافة المجتمع الجنوب الشرقي المغربي العميق في تاريخه . هذا الكتاب الأسطوري الناذر، بوابة مفتوحة مكتوبة و إصدار قل له نظير، سينقد و سيوقظ الحكاية الشفوية المسجلة في عداد الانقراض و الموت، لمجتمع توصف حياته بحياة رجل الثلج تحت سقف اتساع ثقب النسيان و التهميش، لكن فهو غير ذلك له من التاريخ و الحكاية و المقاومة ما يستقيم به عموده الفقري انه كتاب » Contes berbères racontés à mon fils » كتاب الحكايات الخالدة التي تجمع و تخزن حقيقة و حياة و بقاء و صمود و استقامة مجتمع ضرب بثقافته و عاداته في قدم التاريخ .
كتاب » حكايات أمازيغية أحكيها لإبني » أراده صاحبه أن يكون حقيقة وواقع لحكايات و أساطير فانطاستيكية و خرافية، تحكيها الجدات لأحفادها و الأباء لأولادهم ، ليس فقط للسرد و الحكي، كغاية للنوم أو تهدئة خوف الليالي الباردة الدامسة، أو نسيان جوع الأيام العجاف. بل أراد به العودة الى الحكي بطريقة حديثة، من أجل الإستقراء و التحليل و نوع من الدراسة الأنثروبولوجية و الميثولوجية و السسيولوجية و التاريخية و الترجمة الى مختلف اللغات. لبلوغ العبرة و الدرس و الاستفادة و تصحيح التاريخ، لإنقاد ما يمكن إنقاده ـ قبل فوات الأوان ـ من أدبيات و أخلاقيات و قيم انسانية لشعب ألت في ثقافته و لغته الى الزوال .
إن غاية الأستاذ علي حدوشي هي غاية سردية مكتوبة بنمط حديث تجريبي على غرار فئة قليلة ،من من سبقه من الروائيين و السرديين في عالم القصة و الحكاية أمثال بول ريكور في كتابه التحليلي » الهوية و السرد » ،حيث أشار ان السرد و الحكي أنساق رمزية منتقاة و مؤولة بطرائق الخلق و الخيال ، بأنه تمة عروة و ثقي بين العمل الخيالي و اليومي المعيش أو على نحو أكثر تجريد بين السرد و الحياة .
و أضاف أن القصص تروى و لكنها أيضا تعاش ، صاحب الكتاب لا يقودنا الى الأحلام و الخيالات انما يدفعنا الى الواقع و يسمح بالإنفتاح على عالم ذو معنى . يقع الكتاب في 137صفحة من الحجم المتوسط يزين غلافه الخارجي الأمامي رسوم أدمية و غير أدمية و حيوانية و خرافية، وفي أعلاه عنوان الكتاب و اسم صاحبه.أما غلافه الخلفي فيضم تعريفا لصاحب الكتاب و صورته، و مقتطف من حكاية » تاتبيرت تاوراغت « . علي حدوشي استهل كتابه بمقدمة تفصيلية إيجازية لواقع الثقافة و اللغة و الحكاية الأمازيغية كغاية من إصداره هذا ،الذي جمع فيه مجموعة من الحكايات على الفهرسة التالية : 1- Iwujiln d ammi Belhirt d ma tarir 2 -Fadma m’Zel ait mas 3- Tabusyyart 4- Tasrdunt n Isendal 5- Tatbirt Tawraght 6- Sbaa n’taririn 7 –Maddz Ighsan 8 – Lmughdir 9- Asif n ljnun 10 – Hamou ou namir و قد طبع الكتاب بمركز الطبع بأيت ملول بأكادير، و ثم تمويله من طرف الجماعة الحضرية لبومالن دادس، و وقع بقصر المؤثمرات بورزازات يومه 22-12-2013 بحضور فعاليات أمازيغية تزامنا مع إلقاء الأستاذ الكبير أحمد عصيد لمحاضرته تحت عنوان » العلمانية و الديمقراطية « . و ثم إهدائه الى أطفاله الذين وافقوا على وجود هذا الكتاب .
كل حكاية مثل لها برسوم كاريكاتورية تقريبية لشخصيات و أحداث الحكاية. إن لم نقل هي صور واقعية و حقيقية في مغزاها و نظرتها العميقة خاصة عند الدارس للرموز و الأشكال التعبيرية الفنية و هي رسوم للفنان الكبير محمد ملال. من باب الدراسة و التحليل كموجز من خلال قراءتي الأولية للكتاب ،و وقوفي على حكاية « تاتبيرت تاوراغت » استقيت أنها تعالج قيمة الحب و التضحية و الأصل ،في قالب أسطوري خيالي لكنه واقع معاش في تاريخ الإنسان الأمازيغي عبر مر العصور . حب حقيقي بين الرجل و المرأة ،حب مقدس للأرض و عشق للحرية، بإعتبار المرأة واهبة للحب و هي الحياة و رمز الخصب ،و الرجل رمز التضحية و تحدي الصعاب من أجل الإنتصار بالحقيقي و المقدس و الحرية ،حيث السفر الى سبع سموات و التضحية بلحم الجسد رغم الإكراهات .
كما ضحت المرأة بعذريتها و الأرض التي قدمت المساعدة و التضامن » النسر » . لكن الرابط الأكبر بين الآدميين و الجامد الحي و الحيوان هو الدم ( البكرة ، قطعة اللحم ، القرابين و الأضاحي ) حيث كانت النهاية أو بداية النهاية …العودة الى الأرض الذي يعني الأصل و مصدر الحياة و الحرية الحقيقية و الهوية … بهذا الإصدار، يمكننا أن نضع الجنوب الشرقي المغربي على خطى المناطق الأمازيغية الأخرى من شمال إفريقيا، كالريف و سوس ونفوسة بليبيا و القبائل بالجزائر و الطوارق … التي تتميز بالسبق و التراكم و التطور في الكتابة السردية في مجال الشعر و و القصة القصيرة و الرواية و الأمثال و الحكاية و المسرح …لكن السؤال المطروح هو: ماذا بعد قراءة و تصفح هذا الإصدار وغيره ؟ بطريقة أو بأخرى، فإننا نحن أمازيغ الجنوب الشرقي المغربي ملزمين و مجبرين على الاستفادة و أخد العبرة و التكثل من أجل العمل و النظال بالكتابة و التأليف و التدوين ـ لا كتابة دون قراءة ـ من طبيعة الحال بعد القراءة و البحث، لنكون في المستوى المطلوب و المرغوب فيه، ردعا لكل التحديات و الهجمات ،و لكسب رهانات ما بعد ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور المغربي، مقابل تصنيف اليونسكو الأمازيغية من اللغات و الثقافات المهددة بالانقراض.
فبالكتابة و التدوين و التأليف تخلد الشعوب تاريخها و حضارتها و تنقد مورثوها من الموت الطبيعي أو الموت الممنهج . أختتم مقالتي هاته بحديث مشهور للأديب و الكاتب الليبي سعيد سيفاو المحروق ( رحمه الله) من جبال نفوسة الليبية الأمازيغية : » … و إذا كان صدأ قلمي و صديده و نسيانه و موته .. إذا كان ذلك كله ليس بذي قيمة ـ لأن قلمي ليس من الصنف الباهظ الثمن ـ فان موت أساطير أجدادي يعني موت شعبي برمته على بكرة جده و جدته و أمه ،سوى أساطير و أوهام و ألام أجدادي …عسى أقوى على أن أكتبها و أنفخ فيها شيئا من حياة ،و عسى حياتها تعيد عني أشباح السرطان الذي بدأ ينقط قلمي بالصدأ و يهددني بالصديد، فعسى بصنيعي هذا أنقد حياتي الشخصية السرية و العلنية … أنقد دماغي من خطر سرطان قلمي مستهديا أبدا بعقيدة ورثتها منذ جدود الأجداد : أن يموت إنسان فذلك لا يعني شيئا، أما أن يموت تراث شعب … أشعاره … أساطيره … مفرداته… لغته…فذلك هو الموت الفصيح؟…إن ذلك يعني أن الشعب نفسه يموت بالسرطان الشعبي …و تلك هي الكارثة .
السؤال الماثل أمامي الآن : كيف أذون و أنقد تراثا شفهيا منسيا … احتقره شعبه على مر العصور و اعتبره نوعا من الخرافات ؟ تحيا مع خفافيش منتصف الليل و تموت في رابعة النهار « . ( سعيد المحروق طرابلس الغرب 1978 م صحيفة الجماهيرية 1986 م ).
بواسطة – أحمد زرير ب إغي زرقطن تزي ـ ن ـ تيشكا
المصدر : https://tinghir.info/?p=6638