"لم توجد أبدًا عقليّات عظيمة دون أنّ يمسّها الجنون"
-أرسطو-
في عام 1926 ذهب رجل إلى طبيب نفسي مشهور، شاكيا من اكتئاب لايعرف سببه، كان علة في حرمانه من النوم. بعد أن فحصه الطبيب، كان من بين ما وصف له قراءة القصص الفكاهية، وأكد عليه قائلا: عليك أن تقرأ لميخائيل زوشينكو، وستجد متعة كبيرة في القراءة له وسينصرف عنك الاكتئاب.
فنظر إليه الرجل وقال بتنهد: أنا ميخائيل زوشينكو يادكتور…
يبدو من خلال هذه القصة أن ثمة علاقة وطيدة بين المرض النفسي والإبداع، وأن ما يتركه المريض النفسي من إبداعات وراءه قد تكون حلا لعلاج مشكلات مرضى آخرين. أو حلا لمشكلات الناس عموما.
وهنا يمكن أن نطرح هذا السؤال: هل تعزز الأمراض النفسية حالة الإبداع؟ والجواب نعم، وقد قوّى من تلك الفرضية، أن هناك علاقة بينهما، بدليل وجود الكثير من الأطروحات والدراسات في علم النفس، خصوصا الفصام، اضطراب ثنائي القطب، اضطراب الوسواس القهري، الاكتئاب، التوحد، فقدان الشهيّة العصبي.. وعشرات الأمراض التي اقترنت بحالة إبداع جامح وانتهى أصحابها إلى الانتحار.. فعدد ضخم من المبدعين، شعراء وكُتَّاب ورسّامون وممثلون…، انتحروا بعد حياة متأججة بالإبداع والمرض النفسي.
ولعل مِن أبرز الأسماء التي يمكن استحضارها هنا الرسام الهولندي “فنسنت فان جوخ”، الذي عانى اضطراب ثنائي القُطب وانتحر في سن السابعة والثلاثين، وقد عاش حياة متأججة بالإبداع والمرض النفسي.
في أواخر أيامه رسم “فان جوخ” عددا من اللوحات التي اعتبرها الأطباء بمثابة رسائل انتحار، مثل لوحة “ليلة النجوم” والتي رسم فيها شجرة سرو تربط بين الأرض والسماء. وقد عُرف شجر السرو في تلك الفترة بأنه شجر المدافن والمقابر، لوحة أخرى رسمها هي “حقلُ قمح مع غربان” وهي من آخر لوحاته. وفيها نرى ألوان درامية داكنة، سماء غائمة، وطيور سوداء، وممر بين الحقول مقطوع في المُنتصف، في إشارة مِنه لقُرب نهايته. بعدها أطلق فان جوخ الرصاص على نفسه، ومات بعد يومين مُتأثرًا بجروحه.
رسام آخرٌ يبرزُ على قائمة دراسات المرض النفسي في علاقته بالإبداع، وهو النرويجي “إدفارد مونش”، الذي دخل المصحة النفسية سنة 1908، بعد تزايد الهلاوس السمعية والبصرية، ووساوس الانتحار. بالعودة إلى لوحاته، فإننا نجد نتاج هذا الاضطراب النفسي قد تجلى في أكثر لوحات “مونش” شهرة، وهي إحدى أشهر اللوحات في التاريخ، إنها لوحة “الصرخة” التي تعكس كيف يرى مونش العالم لا حقيقة العالم كما هو. وهي تصل إلى مستوى الذروة في التعبير عن الاضطراب والقلق النفسي، ولذلك لم يكتفي مونش برسم واحدة منها. بل رسم عدة نُسخ، أو إن شئت فقل عدة صرخات، يتفقن كلهن في الشكل والمضمون، وكأنه لا يتوقف أبدا عن إطلاق نداء استغاثة.
الصرخة ليست اللوحة الوحيدة لمونش التي عكست نفسًا معذبة. هناك أيضًا لوحة “القلق” التي رسمها بُعيد الصرخة بسنة، وكأنّه يُعيد الاستغاثة. وفيها رسم السماء باللون الأحمر الدامي، وبدلا من وقوفه بمفرده على جسر كما في الصرخة، رسم في لوحة القلق عددًا من البشر بملامح أشباح وملابس جنائزية قاتمة وكأنه يرثي الإنسانية كلها.
الصرخة والقلق لوحتان تعكسان حالة القلق الوجودي والاضطراب النفسي الذي يعاني منه مونش وتعاني منه الإنسانية، الفرق بينهما أن “الصرخة” تُركّز على حالة هلع ذاتية لمونش نفسه، فيما تركز لوحة “القلق” على حالة من القلق الوجودي واليأس الجماعي. وبالتالي، فإن الشعور بالقلق والاضطراب في لوحة القلق أكثر شمولية، وهذا يسلّط الضوء على مرحلة مهمة من مرض مونش النفسي: وهي أنه إذا كان عاجزًا عن مساعدة نفسه، وهو ما ظهر في لوحة الصرخة، فإنه في “القلق” يعلن ألا أحد يستطيع مساعدته، فالجميع يسيرون برعب نحو هاوية محققة.
حالة اليأس من الآخرين تلك، نرى أنها عامل مُشترك بين فان جوخ ومونش، أما العامل القوي المشترك بينهما فهو أنَّ مِن رحم المأساة خرجت موهبة الرسم فقدَّما كلاهما أشهر اللوحات في التاريخ.
في إحدى اللقاءات التي استدعيت إليها هذه السنة لعرض تجربتي في عوالم التفكير والكتابة، كانت من تنظيم إحدى المؤسسات التعليمية بتنغير، ونحن على منصة العرض، طرح علي مسير اللقاء ملاحظة دقيقة استنتجها من خلال اطلاعه على بعض مؤلفاتي، لها علاقة بتجربة الألم، أو بتعبير آخر رأى أن الدافع الذي يقف وراء ما كتبته هو القلق الوجودي أو تجربة الألم.
وهذا صحيح، فكل مولود فكري أو أدبي قطعت سرته يكون الدافع وراء تأليفه في الغالب ألم نفسي، وقلق وجودي، وهو يؤرخ بشكل أو بآخر للحظة وصول مستوى القلق النفسي لدي إلى ذروته، ويعكس بشكل أو بآخر حاجتي إلى إطلاق صرخة ما قد تكون على شكل استغاثة أو عدم رضى عن وضعية ما ونقد جذري لها، وهذا يتجلى تقريبا في جل مؤلفاتي، وخصوصا في سلسلة الجدائل التي اكتبها، والتي صدر منها كتاب واحد إلى حدود الساعة يحمل عنوان “جدائل رقمية”، والتي قد تصل مستقبلا إلى ثلاثة أو أربعة أجزاء، وايضا روايتي التي سترى النور قريبا والتي عنونتها بعنوان: “مذكرات منجمي”، وهي رواية أقرب في تجنيسها الأدبي إلى رواية سيرة ذاتية منها إلى غيرها من الأجناس الروائية، وإن كانت تجمع بين أجناس أخرى.. وهي رواية تحكي ألما وعذابا نفسيا وصرخة استغاثة. أو إن شئتم هي كل اللوحات التي ذكرتها سابقا لكن بتوسيط اللغة والسرد الأدبي، على لوحة واقع دستوبي قاتل.
بل يمكنني القول إن الذي دفعني إلى القراءة والكتابة هو العامل النفسي بالدرجة الأولى، وعدم رضاي على الكثير من الأوضاع المتناقضة التي مررت بها في تجربتي الوجودية، والتي كانت سببا في دخولي إلى متهات القلق النفسي، وأيضا من خلال تأملاتي وملاحظاتي لتجربة العيش وأسئلة الحياة، وهو ما ولد لدي رغبة جامحة في البوح بما يتلجلج في خلجات نفسي، والبحث عن إجابات لتلك التأملات والأسئلة القلقة، التي انطلقت في غالبها من الذات إلى الموضوع، وبعضها من الموضوع إلى الذات.
هي في الأخير تعبير عن “حطام إنسان” كما جاء على لسان بطل رواية تلافيف التيه.
المصدر : https://tinghir.info/?p=65070