الماء هبة الله للكائن الحي في الواحات، يسقط المطر فتنفجر العيون سيولا وتجري الوديان مسرعة لاحتضان الواحة ، تنشط الحياة الزراعية وتُرسل قطعان الغنم الى البراري المخضبة بالعشب الناعم ،و تعم الفرحة والبهجة قلوب الكائنات، وعلى النقيض عندما تقل التساقطات أو تنعدم تصبح الواحة شاحبة المنظر عابسة ومكلومة ويجف الواد من شريانه ويناقص منسوب المياه في الآبار بشكل مستمر، ترتفع أثمنة الأعلاف و يبيع الراعي خرفانه ويعود بخفي حنين، وخضروات الواحة تشكو ذبول عروقها ،وأشجار النخيل تنذر بموسم عقيم ،أما الحقول المطروزة فقد هجرتها السواعد و المعاول، وغابت عنها أهازيج النساء اللواتي غيرن النمط المعهود و وضعن حذاء العمل والمناجل جانبا ينتظرن رحمة من الله و يعود خرير المياه إلى مسامعهن وتغمر الزغاريد الأرجاء.
تُرفع أكف الدعاء بالمساجد و يخرج الرجال بجلابيب مقلوبة لتأدية صلاة الاستسقاء طالبين الله نجد الواحة الجافة بالغيث وسقي العباد و البهائم ونشر رحمته وإحياء البلد الميت، وفي طقس آخر مواز تتأهب النساء الواحيات كخلية واحدة يستمطرن بطقس متوارث ينشطن عادة تلاغنجا الضاربة في القدم بأشكال من الموروث الرمزي يجمع بين إعداد الطعام و تشكيل دمية عروس المطر و السير في موكب الاستسقاء.
بين هذا وذاك، وحده طموح الماء هو الدافع الأول والأخير لهذه الطقوس، فجفاف الواحة يعكر صفو أهلها وطبائعهم ويقل نشاطهم وتتراجع أفراحهم وتتهدد لحمتهم وتكثر مشاكلهم، وتهجر القرى والأوطان فتتدخل النساء كفاعلات اجتماعيات وصمامات للأمان في الواحة لإعداد الخبز المدفون في الجمر المحشو بالشحم و البصل الأخضر و التوابل و الموضوع على حصى الواد كإشارة رمزية لقيمة هذا المجرى في حياة الواحة ثم يُحمل الخبز يوزع في البيادر كسرات للأطفال و الرجال وبعد ذلك يشرعن في طهي الكسكس وتُرسل قصعات منه إلى المسجد أو تجتمع نسوة دواريين متقاربين في إعداد ذلك في تجسيد قيم التلاحم و الوحدة و تغذية حس الانتماء والتآخي وفض النزاعات السالفة، أو في مرات يمكن لبعض النسوة أخد زمام المبادرة ويضعن علبا فارغة من السمك أو ما شابه فوق صخور الوادي الجاف تعبيرا عن الكرم ولقيمة الواد في التغدية ، ليتفرغن بعد ذلك لتهيئ تلاغنجا والتهييئ للخروج في موكب الإستسقاء.
بعد تناول الكسكس تشرع الواحيات في تشكيل تلاغنجا وهي مغرفةٔ خشبية طويلة متقاطعة مع قصبة على هيئة صليب تتعامد معها لتصوير بنية الجسد رأسه و أطرافه العليا و جزؤه الأسفل ،فيقمن بإلباس دميتهن الاستمطارية لباس العروس فيرفعنها إلى السماء وهن يرددن لازمة شعرية بأداء جماعي والتي تقول : “أ تلاغنجا نُمّن س ربي ،دٌ إزْگان إيفك أنزار”/ “يا عروس المطر ،نؤمن بالله الدائم الواهب المطر “
“أ تلاغنجا مكيوين ،ودٌاغ ايگان إسمنْ نونزار ” /”يا عروس المطر :من هو زوجك ؟ _ إنه ذاك الذي يُدعى المطر “
يشير السطر الأول الى عقيدة التوحيد لدرء مفسدة الاستعانة بغير الله في الاستسقاء فالله وحده هو المغيث القادر على جعل السماء مدرارا و السحب امطارا ،اما السطر الثاني فجاء على تركيب استفهامي غايته الاخبار بزف عروس المطر الى زوجها .
وفي معنى كلمة تلغنجا فهو اسم مركب تركيبا مزجيا بين كلمتين اثنتين :تل :فعل أمر بمعنى غطٌ يحيل الى مجال اللباس بابعاده الثقافية و الحضارية و الدينية ويحمل دعوة صريحة للقيام بفعل التغطية و التكسية وفعل الكلام “تل” صادر عن آمر رمزي ثقافي عرفي اسطوري جمعي يقتضي وجود مأمور وسياق تداولي وهدف يتوخى تحصيله ،فعل طلب التغطية يلازمه على مستوى التركيب المزجي اسم ثان هو “أغنجا” المطلوب تغطيته وتحويله دلالته من دلالة مألوفة إلى أخرى رمزية ،و من معنى مباشر الى معان ثانوية مستلزمة حبلى بالدلالات ،الكلمة المزجية الثانية لفظ أمازيغي يعني المغرفة الكبيرة أو العظيمة في مقابل تغنجات المؤنثة التي تفيد التصغير ،اذن من خلال جمع المعنيين و لم دلالتهما و استحضار السياق التداولي وهو الجفاف بمعانيه الطبيعية و البشرية وهو شحوب الطبيعة و الانسان كليهما واصفرار اديم الارض بفعل انعدام التساقطات واصفرار وتجعد اديم المرأة الجميلة التي هي انعكاس لجمال الطبيعة ،وهكذا نستطيع القبض على المعني لغويا و تداوليا والكشف عن مستور فعل الكلام الذي يتوخى تكسية المطلوب تغطيته بنقله من مستوى البشاعة و العنوسة الى مستوى الخصوبة و العطاء.
طقس تلاغنحا الاستسقائي طقس نسوي خالص تؤثثه جموع من النساء ،اذن فالنساء ينبرين لهذا الأسلوب الاسطوري استجابة لأمر ثقافي مفاده أن المرأة تشبه الأرض في عطائها في وهجها و في جمالها ،فالأمطار وهطولها تكسي الأرض جمالا و خضرة و غلالا فتزدان بما طاب و لذ ،فالمغرفة الكبيرة العارية الجافة الشاحبة التي تهيأ على شكل صليب يوحي بالأثر المسيحي في الثقافة الأمازيغية الموشاة بلباس العروس يتم رفعها إلى السماء في موكب نسائي مصحوب بأداء جماعي يضفي عليها القداسة في نيتها الاستسقائية وبعدها الرمزي و الثقافي داخل تركيب ثقافي دال يؤمن بالتقابل الدلالي بين السماء الماطرة و الأرض الخصبة و بين المغرفة العروس وزوجها المطر .
المصدر : https://tinghir.info/?p=64055