“بروكرست” شخصية أسطورية ذُكرت في الميثولوجيا اليونانية، هو قاتل وقاطع طريق، كان يعيش في أتيكا، وكانت له طريقة خاصه في الإجهاز على ضحاياه، كان يستدرجهم إلى بيته، ليُضيّفهم ويُكرِمهم، وبعد تقديم العشاء يدعوا ضحيته إلى قضاء الليل والنوم على سرير حديدي صنعه بنفسه، لأنه كان حدادا، فإذا ما اضطجع الضحية على السرير بدأ “بروكرست” عمله، يربطه بإحكام أولا، ثم يقيس طول الضحية بالنسبة لطول السرير، فإذا كان قصير القامة يَشدُّ رجليه ويبدأ في تمطيطهما إلى حافة السرير حتى تتمزق أطرافه، أما إن كان طويلا قام ببترهما ليَفصِل منهما ما تجاوز طول السرير، حتى ينطبق طول الضحية تماما مع طول السرير. ظل هذا دأبه إلى أن لَقيَ جزاءه على يد “ثيسيوس” الذي أخضعه لنفس المَثُلة، فأضجعه على السرير ذاته، وقطع رقبته لينسجم مع طول سريره. فكان جزاءه من جنس عمله.
شخصية “بروكرست” وإن كانت أسطورية، لكننا نجدها متمثلة في ذهنية الكثير من البشر للأسف، فلدى الكثير من الناس سرير “بروكرست” بوصفه قالب ونمط تفكير، يتمظهر في عدم قبولهم بأي شخص كما هو في حقيقته، بل يبادرون إلى حشره في صورة صنعوها في أذهانهم، ويحاولون التخلص مما لا يوافقها، فيجب أن يكون الشخص المختلف عنهم على مقاس ما يتصورونه هم لا كما هو في الخارج على وجه الحقيقة الموضوعية، ويجب بتر وقطع أي شيء يفصله ويميزه عن القالب الذهني الذي يضعونه فيه، بمعنى آخر، ثمة عنصر بروكرستي في إدراكهم الذهني، يستقبلون به المعطيات الحسية، ثم يأتي المخطط الذهني أو البراديغم أو “الجشطلت”، فيُضفِي هيئة ومعنى معينا على هذا الهُلام الحسي، ونحن في إدراكنا الحسي لا نملك إلا أن نملأ الفراغات ونسد الثغرات ونسبغ الكمال على الأشكال الناقصة، والنقص على كل الأشكال الكاملة، ونضفي الاتصال على المنفصل، والاستمرار على المتقطع … إلى آخر تلك الآليات التي فصَّلها الجشطلتيون في سيكولوجية الإدراك.
بإمكاننا أيضا تعميم سرير “بروكرست” على أصعدة الحياة كلها، فيمكننا أن نسقط الذهنية البروكرستية على كل شيء، باعتباره توترا محسوبا بين بروكرست وثيسيوس! بين التقليد والتجديد، بين الموالاة والمعارضة، بين اليمين واليسار، بين العرب والأمازيغ، بين الإسلام والعلمانية، بين الأيديولوجيا والمعرفة، بين الجهل والعلم …إلخ.
تلك هي الذهنية البروكرستية الطاغية على الكائن البشري اليوم، والتي تجعله يرى ما يتوقع أو يريد أن يراه، لا كما هي الأشياء على حقيقتها، ذلك أن إدراكه يعتمد تمامًا على مخططاته التصورية، وهذه الأخيرة تعتمد بدورها على خلفياته الاجتماعية والثقافية، والأيديولوجية، أو إن شئت فقل على مسبقاته الذهنية، يقول “نلسون جودمان”: “ليست هناك عينٌ بريئة، المادة الخام للرؤية لا يمكن استخلاصُها من المنتَج النهائي، قد تتغير مخططاتنا وتتطور، قد تُنقَّح وتُستبدَل، قد توحِي بها أو ترشدُها عواملُ من كل صنف، غير أنه بدون مخططٍ ما فلن يكونَ إدراكٌ”. بمعنى أن المخطط الذهني يسبق إدراك الكائن للوجود الخارجي، وهذا يجعل حكمه وتقييمه ومعرفته بالأشياء ناقصة، وغير موضوعية، وهذا ما قصده “نوروود رِسل هانسون” بكلامه، الذي أصبح من مأثورات فلسفة العلم الجديدة، حين قال: “الإدراك مُحَمَّلٌ بالنظرية”، فخلفياتنا النظرية، تصوراتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل في كيفية رؤيتنا له.
لذا يجب علينا أن نقذف بهذا السرير خارج أذهاننا، ونعلم أن للأشياء الخارجية حقيقتها الموضوعية التي يجب أن ننطلق منها لنعرفها، لا من مسبقاتنا الذهنية، وأن للناس أيضا مقاسات و رؤى مختلفة، و أن لا نحشرهم في إطار ذهني نصنعه لهم من عندياتنا ثم نلومهم إذا خالفوه أو خرجوا عنه.
المصدر : https://tinghir.info/?p=63531