منطقة تافيلالت بالجنوب الشرقي المغربي، من أكثر المناطق المغربية جذبا لليهود الوافدين على المغرب منذ القديم، وتاريخ التواجد اليهودي في هذه المنطقة شبه الصحراوية قديم جدا حسب الكثير من الباحثين في التاريخ والتواجد اليهودي بالمغرب كـ “عبد الله استيتيتو”، والباحث اليهودي “ناعومسلوش”، وغيرهما ممْن أشاروا إلى كون اليهود استوطنوا تافيلالت منذ القديم، وكانوا من بين العناصر التي لها السبق للاستقرار بالمنطقة لارتباطها بالسودان وتومبوكتو جنوبا إلى جبال الأطلس شمالا.
والعديد من الواحات والأحواض كانت مأهولة باليهود من سوس إلى درعة وتودغى إلى زيز وغيرها، بدليل البقايا الأثرية والفكرية والتقاليد التي كانت وما زالت قائمة وحاضرة لحد اللحظة، حيث ورد في “الاستبصار” أن اليهود استقروا بسجلماسة وغيرها لكونها باب المعادن ومحطة التجارة. فاليهود كانوا جزءا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي لهذه المناطق، وهم فئة نشطة خاصة في مجال الحرف اليدوية والتجارة المعيشية، ولهم السبق في تطوير التعاملات المالية حيث تركوا إرثا ثقافيا في مجال المخطوطات والنقش.
النبش في التاريخ اليهودي بتافيلالت على ندرة وثائق محلية مفصلة يرغم الباحثين على استرجاع هذا التاريخ من أربع مصادر تكاد تكون موضوعية لإعادة تركيب الأنماط التي عاشتها هذه الفئة من خلال العلاقات والتفاعلات الاجتماعية في قصور تافيلالت:
أولها: الكتابات الفرنسية.
ثانيها: العقود والوثائق المحلية التي قد تكشف عن بعض جوانب حياة هذه الفئة.
ثالثها: كتابات اليهود عن أنفسهم.
رابعها: الرواية الشفهية من خلال التعايش السلمي بينهم وبين الشرفاء والأمازيغ والعرب، جنبا لجنب، والحديث عن تاريخ اليهود بالمنطقة يستلزم ويستوجب التمحيص والتدقيق والمقارنة كما أشار صاحب كتاب “يهود المغرب وحديث الذاكرة” عمر بوم بترجمة من الباحث خالد بن الصغير.
قصر مزكيدة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية
مزكيدة قصر مخزني بمواصفات القصور الاسماعيلية أو التي بنيت على عهد السلطان مولاي اسماعيل بالريصاني بإقليم الراشيدية بجهة درعة تافيلالت،ينتمي لجماعة ايت خباش التي تم تحويل اسمها الى جماعة الريصاني حاليا لاعتبارات مخزنية، والقصر على بعد (5 كلم) من المركز شمالا، وواحته تمتد طولا حتى قصر أولاد الزهراء التابعة ترابيا لـ “عرب الصباح زيز”، وهي المنطقة التي كانت تشكل خطرا على اليهود في تنقلهم للتجارة وصلة الرحم من الريصاني عبر مزكيدة في اتجاه أرفود.
القصر أبراجه مربعة ببرجين في المدخل وبرسومات ترمز للنخلة، ومعينات ترمز للمرأة، والمثلث المقلوب الذي يرمز للكبش أو الحمل. وكلها رموز ذات إيحاءات مرتبطة بالخصوبة، مما يبين تعايش الساكنة مع الثقافة الأجنبية والمحلية. . وذاكرة القصر قوية ومتنوعة من التاريخ للأمكنة للسلاطين للأسوار والرسومات للدروب إلى المشغولات اليدوية الحرفية.
اقتصاد القصر مبني على ما تنتجه الواحة من خلال حقول تقليدية تسمى”الكمون” بنقط ثلاثة فوق الكاف تزرع فيها مزروعات مجالية مختلفة حسب الفصول وهي منتوجات تقليدية كـ (التمر، الزيتون، التين العنب، الفصة، الزرع، الجزر، الفول، لملوخية، الكرعة، الطماطم، الحار، الوركية، القزبور، لمعدونس، النعناع، الشيبة… ) إلى جانب تربية المواشي وحرف خزفية من جريد النخيل كـ (لقفاف، شواري، طباق، زنابل، حصائر …) أما الجانب البشري فهومختلط: الشرفاء، الأمازيغ (ايت خباش) والعرب واليهود في تجمع سكاني متشابه وبباب واحد يدخل منه الجميع في علاقات اجتماعية متفردة ويتعايش طبيعي سلمي فريد.
يهود قصر مزكيدة والعلاقة الاجتماعية مع الساكنة
أكبر دليل على التعايش الطبيعي والسلمي بين ساكنة القصر ويهود مزكيدة، هو وجود درب خاص بهم بالقصر يسمى “درب ليهود” وما زال قائما وحاضرا لحد الساعة،حيث استقرت الأقلية اليهودية بين المسلمين في أمن وأمان،وما يرافق ذلك من معاملة يومية بين كل الفئات العمرية (نساء، اطفال، شيوخ). دربهم وبيوتهم بالقصر في معمارها هي البيوت نفسها لساكنة القصر، ولا تمييز في هندستها، وكان لهم بئر خاص بهم وفرن يقيمون طقوسهم الاحتفالية في المناسبات ونهاية الأسبوع في احترام تام دون مضايقات في نفس الدرب، والعلاقة في البيع وممارسة الحرف تميّزت بالاحترام ايضا مع التميز الخاص بهم في امتهان حرف بسيطة كـ “تخرّازت، اللحام، بيع الخضر والسمن والسكر والزيت والشاي وصنع لبرادع والخياطة. والسر في ذلك حسب الرواية الشفوية أنهم كانوا متفردين في الحصول على المواد الأولية أو الشبه المصنعة لارتباطهم بشبكة تجارية منظمة تربط بين الدار البيضاء وفاس وتافيلالت ضمن ما سماه الباحثون بـ”الاقتصاد الصحراوي” بحماية من المخزن وزعماء القبائل من ذوي النفوذ لليهود الذين كانوا بمثابة وكلاء اقتصاديين يربطون بين المراكز الحضرية والقروية.
الوضع الاجتماعي ليهود قصر مزكيدة
يهود القصر كانوا من الفئة أو الطبقة الثانية لارتباط وضعهم بالحرف وبالمشغولات اليدوية أو المنزلية البسيطة المرتبطة بالواحة الا اليهودي رفّوع وأبناؤه بقاماتهم الطويلة ومنهم “ياهو” و”يحيا” الذين كانوا يتاجرون في “الفضة”، بخلاف اليهود الذين كانوا يسكنون الحواضر كالريصاني وأرفود وقصر السوق كانوا من الطبقة الأولى يمارسون حرفا أرقى كصياغة الحلي والذهب، أو التجارة بين الدار البيضاء وتافيلالت. والوضع الاجتماعي لفئة يهود القصر كان بسيطا كساكنة قصور تافيلالت الأخرى، يبيعون عائدات المنتوجات المجالية من حقولهم أو الخزفية من نخيلهم بالريصاني أيام السوق الثلاثة في الأسبوع (الأحد، الثلاثاء الخميس) ويعودون في المساء على دوابهم أو راجلين في أمن للقصر بعد العصر أو قبل غروب الشمس بقليل، نساؤهم تعاشرن نساء القصر وتتبادلن ادوات التجميل اللبس والتزين معهن ولا تنعزلن بالدرب إلا لأمور شخصية جدا. وتجلبن الماء من بئر خاص بهن، وحين يجف تحملن “القلات” إلى بئر المسجد ولا تتطاولن على حبل دلو البئر، بل تنتظرن أحد المارة من ساكنة القصر ليملأ لهن “القلات” حسب الرواية الشفهية لساكنة القصر، ولا خلاف إلا في المآتم حيث يحمل اليهود موتاهم للمقبرة اليهودية بالريصاني قرب الملاح.
يحيا الربّاط اليهودي المزكيدي (بتثليث نقط الكاف)
هو من الأسر اليهودية البسيطة التي استقرت بقصر مزكيدة وأسرة “يحيا الربّاط”( انظر الصورة اعلاه ) كانت تقطن بدرب ليهود وسط القصر، وكان يتنقل بين مزكيدة والريصاني والخمليةومرزوكة وارفود، معروف بحرفة ربط الأواني المنزلية المكسورة والمشغولات اليدوية بالواحة وبمهنته أصبح ينعت ويلقب بـ”الرّبّاط” بتشديد حرف الباء لأنه يربط بين المكونات، مألوف لدى النساء، ولا يشكل خطرا عليهن، وحتى اذا دخل الرجل من الواحة ووجده بالبيت، فإنه يعلم مسبقا أن تواجده أصلا هو من اجل المنفعة، ولا ضير في ذلك مادام حرفيا، وكانت للنساء رغبات ملحة وكبيرة لسماع كلامه المختلف، ولكنته المتميزة، حيث ينطق السين شينا ولفظة “سيدي” ينطقها “شيدي” وهوما يثير الكثير من الفضول لدى النساء في معرفة بعض من حياة اليهود بالقصر حسب الرواية الشفوية لـ “احماد جرو” أحد ساكنة مزكيدة الذين عايشوا اليهود بالقصر في الأربعينيات وهو جندي متقاعد شارك في حرب الرمال لينتقل في السبعينيات إلى الصحراء كجندي للدفاع عن الوطن إلى أن تقاعد بطنطان ومازال حيا وبقواه العقلية يحكي الآن بتدقيق عن يهود القصر وعن هذه العلاقات الاجتماعية المتفردة.
الثمن الذي يتقاضاه الرباط يحيا ذو اللحية البيضاء من عمل “ترباطت” ليس بالضرورة أن يكون نقدا، بل يكون العمل مقابل منتوجات مجالية فلاحية كالتمر والخضر أو العلف أو الحبوب، وطال مكوثه بالقصر ورحل إلى “احياتن” بالريصاني ولم تنقطع صلته بالقصر حيث يمارس مهنته بباب الدار الكبيرة وكان ايضا ثقابا للأذنين واستمر تردده على الساكنة حتى أصبح المثل يضرب بلحيته فكل شخص له لحية بيضاء ينعتونه بلحية الرباط في حالة الغضب، أو في نشوب مشادات كلامية أو خصومات طائشة بين الأهالي.
اليهودي ولد حكون (بتثليث نقط الكاف) أو ولد حقون الملقب بـ “عكو”
يهودي من قصر مزكيدة أيضا كان بقالا يبيع الخضر بالريصاني، وبالقصر كان يبيع بعض البضائع ذات النفع العام بمنزله كـ (لفتيلة، غاز لمبّا، لمبات، الشمع، السكر، الشاي) والى جانب عمله بالسوق، وبالقصر كان يعقد عقودا تجارية على شكل “رهن” أوديون بـ (الطّالوع) بتشديد حرف الطاء المصطلح المتداول في تافيلالت والذي يسمى حاليا بـ (الربا). وانتقل بعد ذلك لمدينة أرفود وبها استقر إلى أن رحل.
اليهودي الملقب بـ “رفوع”
رفوع كان من الطبقة الأولى كان يبيع الفضة بالريصاني ويعود في المساء كالعادة للبلدة من أبنائه “ياهو” و”يحيا” وحسب الرواية الشفوية كانا ذوي قامة طويلة،ورفوع كان له بيت كبير بالقصر وأملاك بالواحة قبل أن يبيعها أثناء الرحيل للريصاني لأولاد مينة قدور. ومنهم أيضا “شلومو” الخراز وكان يخيط الدلاء وهو آخر يهودي غادر البلاد ،ومنهم كذلك اليهودي الملقب بـ “ميعير” واليهودي الملقبب “يشو” وزوجته الملقبة بـ “عبيشة يعقوب” وكان يعيش معهما يهودي فقير اسمه سالي.
ومن الأسر اليهودية التي كانت تزور يهود مزكيدة: “ولد بْراخَا” الذي كان يبيع السمن والزبدة والدهان بأرفود و”ايكونالنقيرا” حداد بالمعاضيد، و”ياهو ولد الديواني” بائع الكتان و”أولاد الصابوني” الذين كانوا يبيعون أجزاء الدراجات العادية والنارية.
قصر مزكيدة وواحتها كانت ممرا لليهود الذي يودون نقل بضاعتهم من الريصاني الى ارفود خاصة الفضة والذهب وكانت ممرا ايضا للذين يودون زيارة أقاربهم بأرفود على بعد 10 كلم تقريبا وكانت مزكيدة مستقرا آمنا لهم للمبيت حتى الصباح،لكن الطريق نحوارفود خطرة ولا بد من البحث عن الحماية للمرور عبر الواحة وقطع المكان الخالي المسمى بـ “السهب” المجأور لـ “أولاد الزهراء”، ولا يحسون بالأمان ويخافون على ارواحهم وسلب ما يحملون من قطاع الطرق، وكان في القصر رجال من آيتخباش يقومون بمهمة الحماية لكن بالمقابل، وهذا العمل، أي الحماية مقابل الأداء يسمى “الزْطَاطة” وهو مصطلح متداول ايضا بتافيلالت وبأماكن أخرى بالمغرب.
علاقة اليهود بالقصر كانت علاقة طيبة في احترام تام وبحماية من القبيلة ومن المخزن سواء في زمن الاستعمار أو الاستقلال وما يرغبون فيه هو الحماية بناء على ما يرددون بينهم “البارح كنا نقول مرحبا بـ “شِيدْ القبطان” واليوم نقول مرحبا بـ “شِيدْ القايد” بنطق السين شينا أي لا مشكل في السلطة سواء أكانت استعمارية أو مخزنية مغربية وما يهم هو والاطمئنان والعيش في أمان.
الساكنة بقصر مزكيدة أخذت من اليهود بعض الحرف كالخرازة التي زاولها عبد الرحمان يامني الخرّاز، واللحام الذي أتقنه “عمر بن التهامي اللّحام” وبتافيلالت أو بالجنوب الشرقي عموما حافظ اليهود على لسانهم وعاداتهم ولم يتلقوا اي مضايقات لكون ساكنة الجنوب الشرقي هادئة وصدرها رحب ويتسع للتعايش مع مختلف القوميات، وكانت قيادات القبائل تأمر باحترامهم لان حمايتهم هو الحفاظ على الثروة الاقتصادية، وساهموا في إدخال اللغة العربية لمناطق أمازيغية بحكم تجوالهم وتعاملهم مع الناطقين بالعربية وبحكم مزاولة التجارة،وتعلموا ايضا اللغة الامازيغية حتى اصبح الحديث في كتابات الباحثين عن “تمزيغ اليهود” فرحلوا بلغتهم الأصلية وباللغة الأمازيغية والعربية وبعادات اللبس والتزين والغناء والأكل، فلم ينسوا المنشأ ويعودون من حين لأخر صحبة أبنائهم في مناطق بالجنوب الشرقي وكان التنسيق قبل كورونا بقليل لعودة حفدة يهود مزكيدة لدرب ابائهم واجدادهم عبر وكالة أسفار بمراكش لكن الوباء حال دون ذلك. ولا يمكن نسيان المقطع الغنائي الذي رددته احدى اليهوديات مع وفد من النساء أثناء زيارتهن لـ “أسرير” بتنجداد باقليم الرشيدية المقطع يقول “أووراغيِوَيْ لاز أوراغيِوَي فادْ، ديغداديزيرغ ْمدنينو” في ما معناه “مجبناش جوع، مجبناش لعطش جيت نزور ناسي وأهلي “والعبارة كافية للتعبير عن نوع العلاقة بين الساكنة بالجنوب الشرقي واليهود الذين عمروا طويلا بقصور الجنوب الشرقي عموما.
*كاتب مهتم بالتراث المادي واللامادي بجهة درعة تافيلالت من مؤلفاته / أوراق من تودغى / عروس تدغى / شذرات من واحات درعة تافيلالت
صورة لدرب اليهود بمزكيدة
المصدر : https://tinghir.info/?p=62901