يقتضي الكلامُ في مثل هذه المُناسبات السّنوية الاعتيادية التي يحتفى بها باللغة العربية، تجاوز المُستوى المغسُول من التهاني والتبريكات لمُجرد بقاء هاته اللغة على قيد الحياة طيلة قرُون عديدة، إلي البحْث عن مَفاهيم جديدة، تسْعفنا في ضبط قوانين الاحْتفال، حتى لا يصِير الأمرُ خِطابا مسْكوكا تلوكه الألسُن كل مرة، وتذرُوه الرّياح بعده بغتة.
لاشك أن تقديم تصَورات (نقدية) بديلة في مسْألة اللغة عمُوما والعربية تحْديدا، يبني على تجاوز المنتج السّابق الذي مخضته الأقلام والعُقول وعصَرت مضائقه، بذكر خصُوصيات اللغة العربية ومُميزاتها، وأفضليتها من جهة الدّين الإسْلامي على سَائر لغات العَالم، وغيرها من السّمات – التي نتفق مَعها أو نختلف – التي تتميز بها على مُستوى البُنى التركيبية والصّوتية والدلالية، والتي يعُدها البعض إعجازا وومضات مائزة تحْسب لأهل هذا اللسان، ومن تبعهم في سيْرورة لا مُتناهية إلى يوم الدين، إلى إصْدار رؤى مُغايرة، قد تفسِّر لنا هذا الانشطار اللغوي الفج، الذي يعيشُ في كنفه الإنسان المُعاصر، الناطق بلغة الضاد، والذي يُجاوره من الألسن الأخرى المُحايثة له.
انطلاقا من التراكم الكمّي الذي ميز اللغة العربية من جانب النصُوص الكاشفة عن حسناتها تمجيدا ودفاعا عن أحقيتها في الرّيادة وقيادة قافلة اللغات البشرية، نسْتطيع أن نبيّن بعض ما يُخالف ذلك، في زمننا الحاضر، حيثُ يجتهد بنو جلدة هذه اللغة في إنزالها من بُرْجها العَاجي المُسيّج بحصانة التقديس الديني والذنب الإلهي إلى حضِيض الواقع ومشاكله وتناقضاته اللغوية تحديدا.
فتأسَرنا العشرات من الأسئلة حول طبيعة اللغة نفِسها، ومنهج اكتسابها وقدرات أهلها الناطقين بها، ونبدأ مقاربة ذلك من خلال مِحورين أسَاسيين هُما: عُنف النّحو العربي، وانشطار الهُوية اللغوية.
-عنفُ النّحو العربي؛
منذ بداية التقعيد النحوي للغة العربية أواخر القن الأول الهجري مع مُتقدمي نُحاة البصرة و الكوفة كأبي اسْحاق الحضرمي و عيسَى الثقفي و الخليل أحمد الفراهيدي وسيبويه والكسائي و غيرهم، 1 انبرى كثير من أهلها للذود عنها بعصبية ظاهرة، أدخلوها بذلك في متاهة من التقديس الأعمى جيلا بعد جيل، ما أدى إلى نشوء عنف نقيض تجاهها، لاسِيما من اللغات الأخرى التي تنصَهرُ معها داخل وعاء اجتماعي واحد. وقد يكون أثر الخصُوم أبلغ و ألدغ من دفاع الأولين، خاصة حين نسْتحضر هُجُوم النحاة (الحرس الخاص للغة) على المُبدعين الشعراء منذ بدايات نقد القول الشعري، فعِيسى الثقفي مثلا أخذ على النابغة الذبياني قوله:
فبتُّ كأنّي سَاوَرتني ضَئِيلة // مِن الرّقْشِ فِي أنيْابه السّمّ نَاقِعُ
والصّواب أن يقول ناقعا على النصْب، ثم هجُوم أحد تلامذة الأسْود الدؤلي واضِع النحو (ت 175ه) على الفرزدق في رفعه كلمة مُجلف 2
هؤلاء جمِيعا أسْهموا في تحْنيط اللغة وتقزيمها في مَزية ضبط أواخر الكلمات والإجادة في القول الفصِيح و الإبانة فيه .
ولمّا كان همّ النّحاة إبان توسّع الدولة الإسْلامية فجر العصْر العبّاسي، هو السّعي نحو صَوْن اللسان العربي من الزلل واللحن المَعيب بدُخول أقوام أمَم أخرى لا تجيد هذا اللسان، فإن الغاية نفسها أضحْت اليَوْم ماسّة إلى المَهمة نفسها، لكن بمقاييس جديدة تناسِبُ خصُوصيات اللغة اليوم، لذلك يهُزنا دومًا سؤال ما العمل؟ وما الأسْباب الحقيقة في تردّي الذائقة اللغوية العَربية في الزمن الحاضر؟ وهل مازالت وظيفة النّحو العربي الآن كما هي في المَاضي؟
إنّ العنف المُمارس ضِد تراكيب اللغة هُو ما يُضيف لها الحيوية3، يبث فيها دماء التجديد بل يزيدُ رُقعة الإبداع تمزيقا وحُرية، لذلك فنظام اللغة يُعدّ عامِلا مركزيا في نشُوء الرّغبة في مُمارسة العنف اللغوي و الرّغبة في التجاوز و تحْطيم قيُود العبُودية اللغوية، من هنا نفهم لماذا يميلُ المُتعلم المُعاصر-غريزيا- إلى خرْق قواعِد اللغة والاسْتمْتاع أحيانا بهذا الانحراف (départure)- بالمفهوم البلاغي عند كوهن-4، لأن سُلطة المنع دائما ما تولد عُنفا ما، ينفلت من قبْضةِ المُراقبة ليصِير هو ذاته متنا آخر يقبلُ الدّراسة و التأمل.
إن اللغة يجبُ أن تبقى مفتُوحة البَاب دوْما للمُتكلمين لها، ولا يَسْتقيم البتة ما يقرّ به ابن فارس حين أعْلى شأن الشّعراء في اللغة وأنهم أمَراء الكلام وفرْسَانه، ثم يمنع عنهم على-الإطلاق- الخطأ فيه: «فأما لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك5» ، فالناظر بعين الناقد الحَصِيف للمَسْالة، يٌدرك أن هؤلاء القادة الأوائل حُماة اللغة، هُم أول من مَارسَ العُنف ضد اللغة، ومهّدوا الطريق لكل الهَجمات التي تصْدح ُفي هذا الوقت أكثر من غيره، بضرُورة تحرير اللغة من سجنها و بعثها من جديد.
انشطار الهُوية اللغوية العربية؛
إن ما كان بين اللغويين(النحويين)6 سجّاني اللغة من التعصّب والاحْتجاج، ومُجاراة النموذج اللغوي الأول المثالي، أفضى إلى توجيه بوصلة النقد عمُوما إلى نواحي أخرى غير الانكباب على نقد الكلام من حيث ضبطه أو بنيته، أو إعرابه، أو فسَاد معناه، فبلغ التعصّب للقاعدة النحوية ذروته في عدَم تقبّل شعر عدي بن زيد لأن ألفاظه ليْست نجْدية، وتسْفيه شعر ابن قيس الرّقيات7، أو ما كان يفعله الأصْمعي وعمْرو بن العلاء في النزوح إلى تقبّل الشعر البدوي فقط، الذي لمْ تلوثه أيادي المدنية المُنبطحة ببغداد ودمشق وأضرابهما، يُضاف إلى ذلك ما نعلمُه من فِعال اللغويين في شعر المُحدثين رغم إبداعيته، كل ذلك، أسْهم في مرْحلة مَاضية في قتل السّليقة اللغوية وعطل حرَكة الاكتساب السّليم لهذه اللغة، التي ما انفك أهلها يغتربُون عنها مع مُرور الزمن. وبناء عليه، فمظاهر هذا الانشطار الهُوياتي اللغوي تتلخص في ما يلي:
-اللغةُ العَربية نظام من العلامات/الأصوات له مزية خاصّة، من حيث نزل بها القرآن الكريم، ولغة يتعبّد بها وعمّرت قرون عددا، ثم إنها لسَان أمم ساسَت الدّنيا في مَراحل مُختلفة، وأبْدِعت بها عُلوم كثيرة في مَجالات مُختلفة.
– تتميّز اللغة العَربية بدينامية تركيبية وصوتية مائزة، تتّسم بالفرَادة ولا تتقاسم هذه الخصائِص مع باقي لغات الدّنيا، كما العكس صَحيح في (فونيتيك) بعض اللغات الحيّة مثل الانجليزية.
-النّحو العربي نِظام صُوري وضعه علماء أجلاّء من خِلال اسْتقرائِهم للمتن الأدبي القديم، لذلك فمنْ سِماته؛ النسبية والتغيّر وقابلية الانفِلات من القاعِدة المألوفة، أو الشّاهد المُطرد،
– الأنحاء اللغوية المُعاصِرة تتسم بالتداخل والتكامل، انطلاقا من التلاقح/ التزاوج اللغوي الحاصِل في المُجتمعات المدنية المُعاصِرة، وهذه ميزة لم تكن حاضرة في أذهان من قعّدوا للنحو العربي أول مرة، ويقتضِي هذا الكلام، الحديث عن امكانية العمل على بدائل نحْوية جديدة تناسِبُ هذا التحول الحاصِل، أو البحث عن الأنْحاء المُشتركة بين هجين اللغات المتداولة،
-اللغةُ العربية مُنذ نزولها لمْ تكن مُذيلة بالقواعِد والصّرف والترقيم/الشكل، وإنما جاءت بريئة عارية من الزّوائد، مبْعُوثة بالفطرة ومصْقولة بها، لذلك غزتْ الجَاهلية وسيْطرت على بِقاع واسِعة من العالم في بدايتها الذهبية، ولمّا حمّلناها مَا لا طاقة لها، ترهلت وأصابَها البوار، ولم ننتبه إلى أن العِلة ليْست في المُتعلم (المكتسب) لها، وإنما في اللغة نفسِها وطريقة تقديمها.
– النّحْو العربي مقياسٌ رياضِي به توزن فصَاحة اللغة وسَلامة مَعناها، لذلك لابد من الحرْص على صَون الأسَاسيات دون الايغال في الحَواشي، التي أفاض فيها القدماء لاقتراب عهدِهم ببدايات اللغة نفسِها، ونزول القرآن الكريم الذي هو بها يدرك، على الأقل في الأطوار الأولى لاكتِساب هذه اللغة عند المُتعلمين.
– الدفاع عن اللغة العربية، أو أي لغة أخرى، يسْتدعي حبّها أولا، ثم الإلمامُ بها جملة وتفصِيلا حتى تختبر اسْتعمالاتها وجمالياتها، وفصْلها عن السّياسة لتعود أداة للتواصل والتعبير خارج دائرة السّلطة والحمُولات الضّمنية، آنئذ يُمكن أن تكتمل الحلقة في الدفاع عن اللغة باعتبارها حقّا، بما هو حقّ من الوسائل والحجج.
– اللغة قيمة (Valeurs)، مثلها مثل الجَمال، يُدرك كلية، دُون التفاصيل أو القواعد الجزئية المُوصلة إلى حَدث الانبهار الأكبر، إنّها عملية مُركبة يتداخل فيها النفسِي بالعاطفي أكثر مِن العقلي، لذلك تنحُو نظريات التّعلم الحَديثة إلى تسْخير اللعب والأغاني والتمَسْرح قنطرة للاكتساب اللغوي والإدراك الجمالي، بعيدا عن التقنين والتفلسُف في ما وراء طبيعة الأشياء.
خلاصة:
في آخر هذا المقال الذي عجّلت به مُناسبة الاحتفال باللغة العربية الجميلة، لابُد من التأكيد على أن ضَعف هذه اللغة أسْهم فيه كثير من المُتدخلين في حقلها، أولهُم الإعْلام الذي يَهدمُ اللغة ليبني المَعنى الإخباري، لذلك يعثو فسَادا في المعاجم والأنحاء والبُنى في جميع اللغات التي بها التداول عِند المتلقي. ثم البَرامج الدّراسية التي تهمل أكثر جَوانب السّماع والتحّدث والقراءة والتعبير الشفهي، يُضاف إلى ذلك حنين البعْض من مُدرّسي اللغة العربية (النجباء) إلى إحْياء النّموذج اللغوي القديم، في ظل غياب تكوينات أسَاسية لهؤلاء، وعدم اسْتحضار اكراهات باقي اللغات الأخرى المُتاخمة، ممّا ينتج لديْهم مُفارقة شيزوفرنية عجيبة بين المَاضي اللغوي وحاضره، والناظر إلى الامْتحانات الأخيرة لولوج مهنة مُدرس لغة عربية تخصّص، التي صيغت كلها تقريبا، في شكل: صحيح/خطأ، يُدرك فِعلا أسْباب الضّعف شاخِصة أمَامه، وهذه أمورٌ خارجية تُضاف إلى الذاتية الكامنة في اللغة نفسِها؛ المُشار إليها في العرض، ليتبدّى السُّؤال الأبدِي دوْما؛ كيف السّبيل إلى نهضة لغوية تأخذ من الماضي وتمتحُ من الحاضر، لتعْجن خلطة كلية لا تنفي فرْدا ولا جماعة.
………………….
(ذ: محمد بوطاهر،18 دجنبر2021)
(بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، دجنبر 2021)
………………………
فهرس المراجع والهوامش:
1)تاريخ النقد الأدبي عند العرب، طه أحمد ابراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت،ط1- 1985، ص:53
2)علم الفكر، عدد:184، 2021- المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص:195
3)عنف اللغة، جون جاك لوسركل، ت- محمد بدوي، المركز الثقافي العربي ، ص:50
4) ينظر جون كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي و محمد العمري، دار توبقال للنشر المغرب، الطبعة الثانية 2014، ص: 23 و ما بعدها.
5) الصّاحبي في فقه اللغة، ابن فارس، ص:469
6)النحويّون أول من أصّل للنحو العربي انطلاقا من كلام العرب القديم نثرا وشعرا، ومنهم: عنسة الفيل، وأبو اسحاق الحضرمي، ومن اللغويين الذين يبحثون عن غريب اللغة وفصيحها للاحتجاج به نذكر: المفضل الضبي وخلف الأحمر، وابن الأعرابي، وحمّاد الرّاوية وغيرهم .
7) تاريخ النقد الأدبي عند العرب واليونان، قصي الحسين، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس،ط1/2003.
المصدر : https://tinghir.info/?p=62806