تنغير: الحي الشعبي الكبير

admin
2021-09-26T16:10:42+01:00
آخر الأخباراقلام حرة
admin26 سبتمبر 2021
تنغير: الحي الشعبي الكبير
هشام بوبا

…وصلت الحافلة أخيرا بعد مسير نصف يوم، جابت فيه جبال اﻷطلسين المتوسط والكبير. الساعة الثالثة صباحا، وأنا أمشي ملتحفا حقيبة ظهري، وصندوقا من الكتب العنيدة. أمشي لا حياة ولا صوت إلا نقرات حذائي وصداها المتردد عل جدران الليل المهجور. اتصلت بي صديقتي، لتحذرني من المشي ليلا، فأجبتها: لا تقلقي، أنا في تنغير!


أمشي متخيلا جرس الترامواي يعلن عن توقفه في إحدى المحطات، أمشي متخيلا سائق الطاكسي الصغيرة ألوح له فيقف لي بكل حماس، أمشي متخيلا باص المدينة يفتح لي صدر أبوابه الاتوماتيكية، أمشي وأتخيل سائق طاكسي كبيرة نتواصل عن بعد بلغة الاشارة فيعرف اتجاهي وأعرف وجهته.. أمشي وخيالي معي، أتناسى به تعب سفري وحمل ظهري الثقيل.


متى عدت من الرباط وحللت بتنغير إلا وانتابني شعور غريب باﻷمان والهدوء، فتنساب الراحة في روحي، فتسخن وتدندن. ليس مرد ذلك إلى درجة الحرارة (تلكم كانت فكرة ابن خلدون عن ابتهاج أهل السودان وحزم أهل المغرب). لكن مرده إلى شيء آخر؛ إن بعض مؤرخي الحضارة وعلماء الاجتماع قد لن يترددوا لحظة في تنبيهك إلى كون راحة البال في بلد ما هي “نذير شؤم”. فهي دليل على تخلفها عن الحضارة. فهذه إنما يقاس حضورها بمقدار القلق الذي تخلفه في نفوس أفرادها. وبهذا، تكون راحة بالي في هذه المدينة محط خيبة وشعور بالاخفاق.


نفس الشوارع المغبرة، نفس الوجوه النحاسية المتعبة التي أحرقتها الشمس وجمدها البرد، نفس الحلاق الذي يسألني كل مرة سؤاله الشهير:”لماذا لم تبقى في ألمانيا؟”. نفس الفراش الذي يبيع الحلي المزورة في فصل الصيف ويستبدلها بالجوارب القطنية المزورة في فصل الشتاء. نفس سائقي الطاكسي الذين يضربون ليل نهار، وحين يعلقون إضرابهم لا تجد لهم أثرا في الطرقات. نفس الصمت المطبق الذي يخيم على المدينة بدءا من الساعة العاشرة ليلا، نفس الاستيقاظ الباكر بحثا عن قوت العيش (حتى إنك لتجد صاحب المكتبة وبائع اﻷحدية يفتحان محلهما منذ السادسة صباحا وكأنهما على موعد مع زبون مجهول)، نفس المستشفى المهجور الذي يتوسط لمرضاه من أجل ولوج مستشفيات المدن المجاورة… نفس الشيء ونفس اللاشيء.

لا حدائق عمومية لائقة، لا مرافق عمومية للرياضة، لا معهد للموسيقى، لا محافل ولا نوادي ثقافية، لا قاعات عروض ولا سينما، لا مكتبات عامة تليق بعقول نخبها، لا شيء إلا بعضه.
شباب منهك الخيال يتوسل التلكأ في قضاء الحوائج، وبعض من الانتظار. انتظار بعد انتظار، انتظار فرصة الهجرة إلى أروبا، انتظار فرصة عمل في دول الخليج، انتظار قرعة أمريكا، انتظار وانتظار… وثمة مقاه كثيرة لاحتراف الانتظار، وإن لم يتسع المكان فثمة مقاه أخرى على وشك الافتتاح. شباب منهم من ذاق عناء معسكرات البناء بمدن الشمال والغرب، فأفنى فيها ربع أو نصف عمره، حتى قصمت ظهره فعاد أدراجه ولم يدخر منها سوى عود السبسي أو “بلية” الحشيش والله كريم. فوجد سعيدة الحظ بانتظاره، البطالة، يحكي لها مغامراته داخل سياجات الزنك والقصدير في مدن الحسيمة والناظور وطنجة وتامنصورت.


شباب منهم من ولد “وريثا” لأبيه أو جده ممن طبع فيليكس موغى على صدره بطابع الحظ سنوات الستينيات أيام كانت فرنسا في حاجة لعمال مناجم. أبناء هؤلاء أنعم الله عليهم ومن، فصاروا يمسون ويصبحون على “إكراميات” فأصابهم الوهن، فركبهم الشيطان فحلموا أكثر من غيرهم بفرصة الذهاب إلى أروبا، فلا هم أكملوا تعليمهم ولا هم تعلموا صنعة لتحصنهم من بأسهم، فتبين لاحقا أن الحلم صعب، والواقع أصعب، وريع إرادات الهجرة غدى يقل وينتهي بانتهاء جيل موغى، وريع الاكراميات انقطع تدريجيا، فانضم من انضم إلى قائمة الانتظار. وثمة صنوف أخرى..

في تنغير لا يزعجك قطاع الطرق والمتشردين، لكن قد تزعجك بعض العادات والممارسات. في تنغير نلقي التحايا على بعضنا على بعد كيلومترات، نسأل عن اﻷنساب قبل اﻷعمال، نتطفل على بعضنا دون استئذان أو موعد، نلتقي ونجالس بعضنا عن طريق الصدفة، نستهلك ما استجد من لباس وتكنولوجيا وأثاث، ولا نتحرك قيد أنملة عن معتقدات آباءنا. نتساكن ونتعاضد ونترابط حتى أن الجزار يجاوره الميكانيكي، وبائع العقاقير، وصاحب المطعم، وصانع اﻷسنان، والكل يسبح في شارع واحد يتسع للكل. مدينتنا فيها مركز ضيق أشبه ببالوعة تتلقفنا في العشية وتستوعبنا، نحن اﻷربعين ألف إنسان عاقل، فننزلق فيها طائفين حائمين ملتئمين، نأتي إليها مكرهين وإن لم يكن لنا فيها حاجة أو مصلحة، ذاك روتين عشيتنا، ذاك طوافنا المقدس. نتبرك بها صاغرين إلى أن تلفظنا في المساء، فنختفي بين اﻷرجاء، وكل يعود ويختفي، وكأننا لم نكن هناك.

تنغير ليست مدينة وليست قرية. المدينة مجال حركي يجمع نموذج الاقتصاد والتهيئة والثقافة في تشكيلة حضارية تقوم على التوزيع المعقلن للمجال والخدمة والمنافسة والفردانية. تنغير ليست قرية لأن مداخيل سكانها لا تقوم على الفلاحة، بل على التجارة والوظيفة والهجرة، والعمل الناقص. تنغير بين المنزلتين، قرية بقيمها ومدينة بطموحاتها البعيدة. تنغير باختصار حي شعبي كبير، يحن إلى قيمه العتيدة ويتطلع إلى التفاتة جادة، يحمل معها مشروعا تنمويا شاملا لا يقع في ذهن “الأحفور السياسي”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.