الصديقي : “عبور اضطراري على واقعة التحرش”

admin
2021-09-16T12:17:59+01:00
آخر الأخباراقلام حرة
admin16 سبتمبر 2021
الصديقي : “عبور اضطراري على واقعة التحرش”
عبد الحكيم الصديقي

لا أدري لماذا اتجهت جل الأنظار في هذه الواقعة إلى المتحرش لا إلى السيدة صاحبة اللباس القصير؟ على الأقل لتحقيق نوع من التوازن في النقاش حول سؤال الأخلاق بناء على أسس معرفية وتحليل إبستمولوجي .. لا إلى التضامن العاطفي مع الفتاة، والذي يخفي ميلا غريزيا مغلفا بحروف وكلمات الإدانة، وهو في الأخير تحرش خفي بطعم الإدانة.

إن بعض الذكور الذين أدانو فعل التحرش ويدافعون في نفس الوقت عن حرية المرأة في عرض جسدها في الفضاء العام، يقعون في تناقض فكري مفاده: لا للنتيجة نعم لمقدماتها، لا للأثر نعم للمؤثر، وبالتالي يفقدون شرط الاتساق في الطرح والتصور، ومعلوم منطقيا أنه من المستحيل عقلا الجمع بين الشيء ونقيضه.

إن ما يعلنه هذا التناقض الفكري هو أن هؤلاء في الحقيقة لم تسعفهم الظروف ولم تتح لهم فرصة صفع مؤخرة الفتاة تحت أي سقف لا يعاقب عليه القانون، ولا تدينه قيم المجتمع، فيكتفون بخطاب الإدانة في محاولة بائسة لا منطقية لاستمرار حرية نظرهم إلى مؤخرة النساء كنوع من المتعة اللحظية، وربما صفعها خياليا أو استدعاؤها عند ممارسة العادة السرية أو في الأحلام على أقل تقدير، تلبية لفائض الغريزة الذي يحكم سير الإنسانية في هذا العصر، يؤطر سلوكهم هذا مقولة “لي ما شرا يتنزه” في مجتمع يعرف اختلالات وتناقضات بين الفكر والفعل، بين السلوك الفردي والإطار القيمي المنظم للسلوك الاجتماعي، بين الدين والحداثة، بين القيم الإسلامية والقيم الكونية … إلخ، تناقض تلخصه عبارة عبد الكريم جويطي في روايته “المغاربة” ” حين قال: “شعب من الملائكة يقترف ما يذهل الشياطين”.

أما المقاربة الحقوقية والأخلاقية والقيم الكونية وخطاب العقلانية والحرية الفردية وغيرها مما يلوكه هؤلاء، فهي في الغالب وسائل فنية خَطابية، الغاية منها إبقاء حال الجسد الأنثوي على حيوانيته الأصلية معروضا للاستغلال من طرف آلهة اقتصاد السوق، أي رفع القيمة والمعنى عنه، خضوعا لسلطة الثقافة الغالبة التي يفرضها “عصر العولمة الذي يسكنه إصرار غريب على تشييء الإنسان” كما قال الدكتور الطيب بوعزة في كتابه “نقد الليبرالية”.

لا أحد يجادل في جرم الفعل الصادر عن المتحرش قانونيا ودينيا وأخلاقيا، باعتبار أننا ننتمي إلى سردية كبرى وهوية دينة وثقافية تشنع على الفعل وعلى أسبابه المباشرة أيضا، ولست هنا لأبرر الفعل/التحرش أو ما قام به الفاعل/المتحرش، لأن القانون هنا سيأخذ مجراه، وللمؤسسات الموكول إليها تطبيق القانون معاقبة الجاني، كآلية للضبط الاجتماعي، لكن ما يثير الإنتباه في النقاش الذي أثارته هذه الواقعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى ما أشرنا إلى بعضه آنفا، هو هذا الإنزال المكثف للخطابات الجندرية النسوية من قِبَل بعض الذكور، كأني بهم أكثر نسوية من النسويات أنفسهن، مع العلم أنه يمكن إدانة فعل الفتاة من زاوية الدين والأخلاق والثقافة والقيم والفكر والفلسفة. وبنفس أدوات العقلانية التي تبرر للمرأة حرية التصرف في جسدها بوصفها كينونة مستقلة.

حتى توظيفهم لمفاهيم من قبيل الحرية أو الأخلاق أو الجسد في سياق خطاب الإدانة، لا يكون إلا عبر تمييعها إلى حد إخراجها عن دلالاتها المعرفية، وسياقاتها الفلسفية، واستعمالها بحسب الفهم المتداول في أروقة الثقافة الزائفة أو “البسودوثقافة” إن صح التعبير، لا إلى دلالات المفاهيم وما يرتبط بها من أسس فلسفية بنيت عليها، مع شرط استصحاب بحر الاختلافات التي غرقت فيها الفلسفات الحداثية وما بعدها في تحديد ماهية هذه المفاهيم والبناء عليها لتشكيل انساق فكرية وفلسفية مختلفة المشارب ومتضاربة التوجهات رغم استعمالها لنفس المفاهيم.

وهنا يحق لنا أن نطالب أي متحدث عن الحرية أن يحدد لنا ماهية الحرية التي يستنطق بها هذا المفهوم، وكذلك عن الأخلاق، يحق لنا سؤال من يلوك هذا المفهوم عن أي نظرية أخلاقية يتحدث؟، والأمر أيضا عن مفهوم الجسد تحت أي دلالة إبستيمية يستنطقه؟، ولن نعدم مقارعة الحجج التي يستقوي بها هؤلاء بحجج وبراهين علمية وفكرية وتنظيرات فلسفية أكثر قوة وصلابة، بحيث ينهار البناء على رأسهم.

إن النظر إلى الواقعة من زاوية التحليل والمقاربة، يقتضي منا عقلا ومنطقا توجيه النظر إلى ظاهرة التحرش ومعالجة أسبابها قبل الحديث عن فعل التحرش من حيث هو نتيجة أو واقعة فردية حدثت هنا أو هناك، وهنا تلعب لغة الأرقام والإحصائيات والدراسات الدولية دورا مهما تساعدنا على فهم هذه الظاهرة وتحليلها، كونها تصطبغ بصبغة عالمية، وتحتل فيها الدول المتقدمة مركز الصدارة قبل غيرها، رغم ما تعرفه هذه الدول من تمثلات لفلسفة الحداثة والعلمانية وما يستلزم ذلك من حضور قوي للثقافة الحقوقية ولمقولة الحرية الفردية واحترام القانون الذي لا يحمي الجهل به المغفلين ..

ولا أريد هنا الاستطراد في عرض نماذج وأرقام إحصائية ودراسات علمية لهذه الظاهرة فليس هذا غرضي، فبكبسة زر على محرك البحث “گوگل” وتحت أي عنوان يحمل لفظ التحرش/الغرب ستجد ما يثلج العقل، وما ستنكشف به حجب الضباب الثقافوي التي يروج دخانه دعاة الإدانة التحرشية لفعل التحرش، مما لا يتسق عقلا ومنطقا وواقعيا مع الأطروحات التي يعتمدون عليها في تسويق منتوجاتهم المتهالكة وتصوراتهم المتناقضة ..

غاية ما نود التنبيه إليه في هذا المقال المقتضب، هو ضرورة الوقوف على أرضية معرفية صلبة حين نبتغي تحليل أو فهم وقائع أو ظواهر معينة، بعيدا عن الخطابات الغوغائية، أو الانسياق وراء نقاش منبن على دروشة ثقافوية لا تعكس حقيقة الموضوع ولا تدرسه من كل جوانبه، ولا تصل بنا إلى تصور موضوعي لحقيقته، يمكن أن نبني عليه أحكاما تحمل قدرا كبيرا من الموضوعية والإنصاف، طبقا للقاعدة العقلية القائلة “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.