موسم الجني
لعل الزائر لواحة مكون جنوب شرقي المغرب هذه الأيام وتحديدا لعاصمتها بوتغرار، تسترعي انتباهه أفواج من نساء وفتيات يتمشين على حافة الطريق، حاملات سلالا مصنوعة من القصب، خاصة إذا تصادف وجوده هناك مع وقت المغيب أو عند الشروق، فيدفعه الفضول إلى التساؤل في قرارة نفسه عن سر هؤلاء النسوة وعم يبحثن؟
إنه موسم جني التين الذي يبدأ في المنطقة مع أوائل شهر غشت ويستمر حتى بداية شتنبر، على عكس مناطق أخرى يبدأ فيها منذ منتصف يوليوز، ويرجع سبب هذا التأخر إلى الطابع الجبلي لمنطقة إمڭون، الشيء الذي يمنحها مناخا معتدلا لا يساعد على إنضاج المحصول بسرعة فيكون بحاجة إلى وقت أكثر على عكس المناطق الحارة.
في البدء كان”إكورّان”..وفي الختم”تمنّاطت”
تسمى أولى الحبات النيئة التي تظهر على أشجار التين مع بداية فصل الربيع “إكورّان”، حيث توجه للاستعمال ضمن الخضروات التي توضع على الكسكس أو الطجين بعدما يكبر حجمها نوعا ما دون أن تصل مرحلة النضج، في حين تسمى أولى الحبات الطازجة “أخنداف” ويجمع على”إخنداف” بالنسبة للتين ذي اللون الأبيض و”الباكور”بالنسبة لذي اللون الأسود، حسبما أفادت بذلك الروايات الشفوية المستقاة من المنطقة، غير أن أخرى لا تفرق بين الاسمين بسبب اللون، بل تؤكد أن لهما نفس المعنى وأن كلاهما يطلق على أولى الثمرات.
لا يدوم عمر الباكور أكثر من أسبوع، لذلك يضرب به المثل في الأمور الزائلة التي لا تصمد طويلا أو عند الرغبة في التعبير عن أن دوام الحال من المحال، إذ يقال في هذا الصدد؛ “سبع يام ن الباكور دغيا تزري”وترجمتها”أسبوع الباكور لن يدوم طويلا”.
هكذا إذن تمثل “مرحلة الباكور” التي تعني-كما سلف- أول ما يدرك من الثمر، مؤشرا على أن قطف التين لن يتأخر كثيرا وأن على الجميع أن يعد العدة، نظرا لما للتين من أهمية غذائية واقتصادية.
قبيل نهاية موسم الجني، تتساقط الحبات التي بلغت ذروة نضجها من الأشجار بمحض إرادتها أو لمجرد لمسها أو بسبب هبوب ريح خفيفة، إنها”تمنّاطت”، تلك الثمرات الملتوية التي تكون بين الرطبة واليابسة والتي تشكل علامة على إسدال الستار على موسم التين.
أنواع مختلفة
تزخر واحة مڭون بأنواع عديدة من التين أشهرها “تاسكّوريت “و”تملاّلت”، وهي ذات قشرة “بيضاء” ولب يميل إلى الصفرة، إضافة إلى”المروتشي” و”أبرديل”و”أزنداكazndag”…اللذان يعتبران من ألذ وأجود أنواع “التين المكوني”، حيث يكون الإقبال عليهما كبيرا، ويتميزان بقشرتهما السوداء ولبهما الأحمر.
عند الشروق وعند الغروب يكون الجني
يتم جني التين بواحة مڭون في الصباح عند الشروق أو عند مغيب الشمس، وعن السبب في ذلك سألنا بعض سكان المنطقة، فكان الجواب أن التين في هذه الأوقات يكون طريا وفوائده الصحية أكبر، إذ يشاع أنه من المستحسن أكله باردا لأن الحرارة تفقده جودته، بل وتجعله يسبب الإسهال.
تستعمل لجمع التين سلال مصنوعة من القصب يطلق على الواحدة منها “تاقسوست ” أو “تاقفيفت”، فهي الأنسب لحفظه من “التعجن” وحمايته من “التشوه”، كما أنها تضمن له التهوية من خلال الثقوب الموجودة فيها والتي تسمح بدخول الهواء، أما من الأعلى فتغطى”تاقسوست” بأوراق شجر التين حفاظا على طراوة الثمار.
طلع تاكل الكرموس..بلا ما تسنى حد يقولها لك
يعتقد أهالي المنطقة أنه من الأفضل تناول التين مباشرة من الشجرة حيث ما يزال طازجا ونضرا، لذلك فإن إكرام الضيف والغريب وبن السبيل أثناء موسم الجني، يقتضي حسب الثقافة المحلية دعوته لتناول التين”تازارت” بيديه مباشرة من الأشجار، بل إن الزائر للمنطقة لا يحتاج إلى إذن من أحد ليملأ بطنه تينا، إذ تجدر الإشارة هنا إلى أن التين لا يباع طريا في واحة مكون، بل إن ذلك يعتبر منكرا، أما توبيخ من يأكله من الغرباء دون إذن أو نهره فيرقى إلى مستوى الفضيحة والإساءة إلى أهل المنطقة، لهذا يكفي لمن يلج المنطقة أن يقصد شجرة من أشجاره المنتشرة في الحقول وعلى ضفاف الأودية فيأكل حتى الشبع ثم يذهب لحال سبيله، فهنا تنتهي صلاحية المثل القائل “طلع تاكل الكرموس نزل شكون كالها لك” ليتحول إلى “طلع تاكل الكرموس بلا ما تسنى حد إكولها لك”، غير أن هذه القاعدة تنتفي مع الذين لا يكتفون بإشباع بطونهم، بل يتجرؤون لملء القفف والأكياس إلى منازلهم، ونظرا لتكاثر مثل هذه الحالات، فإن “المشرع المكوني” وضع غرامة مالية تسمى”الغُرم”، بحق كل من ضبط متلبسا بسرقة محصول غيره، وتتراوح هذه الغرامة التي يتكفل بتحديدها وتنفيذها رجال من القبيلة مكلفون بالمراقبة يسمون”أيت الغرم”أو”إنغريم”ومفردها “أنغريم” أو “إغرّامن” ومفردها “أغرّام”، بين 30 درهما حتى 200 درهم حسب الدواوير وحسب المحصول والكمية المسروقة، وتستهدف هذه الغرامات بالخصوص الأطفال الذين يعبثون بالمحاصيل ويسرقون حبات الجوز الذي يأتي موعد جنيه مباشرة بعد انقضاء موسم التين وبيعها سواء في محلات محلية أو لتجار يقصدون المنطقة من مدن بعيدة مستغلين انخفاض أثمنتها، لأن البائع “طفل سارق” يرضى بأي ثمن كان للتخلص من”أداة الجريمة” بأقصى سرعة ممكنة وبأي ثمن.
أطنان تضيع ودعوات”لتقنين التين”
تنتج واحة مكون سنويا أطنانا من التين، إذ يبلغ معدل إنتاج الشجرة الواحدة حسب المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي فرع قلعة مكونة ما بين 40و50 كيلوغراما، في حين يبلغ عدد الأشجار بمنطقة قلعة مكونة وحوض دادس-حسب ذات المكتب- وفق إحصائيات 2014 حوالي 47600 شجرة، وفيما يخص واحة مڭون تحديدا فالمكتب لا يتوفر على إحصائيات.
لا يباع التين طريا في المنطقة-كما سلف- لأن ثقافتها تستنكر ذلك، فهو من نعم الله التي حاب بها الواحة بكثرة، لذلك يجب أن تمنح هذه النعمة مجانا وإلا أرسل الله غضبه وجفت العيون وتوقف الوادي عن الجريان وعم الجفاف، هكذا تربى أبناء الواحة أبا عن جد، وحتى في الأسواق القريبة مثل قلعة مكونة وبومالن دادس فإن ثمنه منخفض جدا لكثرته وانتشاره على طول الواحتين، إذ لا يكون الزبناء سوى بعض زوار هذين المركزين ممن لا يتوغلون في الواحة للاستمتاع بتين لذيذ ومجاني أو من المارين من هنا الجاهلين بثقافة المنطقة والحذرين من”الشوهة” إن هم اقتربوا من شجرة أحدهم، أما الأسواق الداخلية فهي بعيدة والأرباح المحصلة ستدفع ثمنا للتنقل إليها.
هي إذن أسباب جغرافية وثقافية تجعل بيع المنتوج الطري ضئيلا إن لم نقل منعدما، مما يسبب فائضا كبيرا في الإنتاج، يجفف جزء كبير منه ثم يباع لتجار متخصصين في تسويقه للاستهلاك المحلي بعد انتشار مطاحنه بكثرة، بل حتى تصديره إلى دول مثل تركيا كما أفاد بذلك تاجر من بومالن دادس، حيث تمثل عائداته مورد رزق ومصدر شغل للعديد من الأسر، أما الجزء اليسير منه فيدخر مؤونة لفصل الشتاء، في الوقت الذي يضيع جزء آخر غير قليل تحت الأشجار وفي السواقي والوديان في انتظار تثمينه واستغلاله بإنشاء مصانع ومقاولات صغرى لمربى التين والأدوية المستخرجة منه، بل هناك مؤخرا أصوات تدعو إلى إحداث مخمرات مقننة لإنتاج “بنت الكرمة” على غرار ما جرى من تقنين الحشيش، مما سيخلق فرص شغل كثيرة ويحرك اقتصاد المنطقة كما هو الحال في العديد من الدول التي يقوم اقتصاد بعض مناطقها على إنتاج الخمور لما تشتهر به من زراعة العنب أو الشعير، عوض التمادي في اعتبار الموضوع من الطابوهات التي يحرم الاقتراب منها، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع بانتشار مخمرات تقليدية وسرية تعمل خارج ودون احترام أي شروط صحية.
المصدر : https://tinghir.info/?p=59279