مسرحيةُ سيكاتريس: صَرخةٌ بِلُغةِ البوح

admin
2021-07-13T10:43:01+01:00
آخر الأخبارثقافة و فن
admin13 يوليو 2021
مسرحيةُ سيكاتريس: صَرخةٌ بِلُغةِ البوح
هشام بوبا

سيكاتريس أو “الندب”، مسرحيةٌ تسلطُ الضّوء على المرأة القرويّة الّتي هاجرَ زوجُها إلى مدن الشمال وغابَ وتغرب، أكان هذا الشمال داخل أو خارج التّراب الوطني المغربي؟! فلم يتحقق لها لا أن تكملَ دراستها ولا أن تسكن إلى زوجها كسائر النّساء في زيجةٍ طبيعيّةٍ. يهاجرُ الزّوج ولا يرجعُ -في أحسن اﻷحوال- إلى بيته سوى مرّة في العام، يقضي فيها وطره أياماً معدوداتٍ فيعودُ من حيث أتى.

تتمحورُ الحبكةُ المسرحيةُ حول حياة تودة، هذه المرأة الشّابة الّتي كان حلمها متابعة الدّراسة والتّسجيل بكليّة الطّب، لولا أنّها قررت بغتة الخضوع لسلطان نظام اﻷشياء، هذا السّلطان الّذي لا يمكن للأنثى القروية الهروب منه، فهي ليست في آخر اﻷمر سوى مشروع زوجة. ها هي تودة تدفعُ ثمن القيّم الاجتماعيّة واﻷعراف وتضحي بطموحها لترضي محيطها، ولتنضمَ بدورها إلى طابور المنتظرات، أولئك المعلقات بين البينين، لا هنّ محتفظات بأزواجهن ولا هنّ مطلقات. وقد تم اختيارَ سينوغرافيا معلقة للتعبير عن هذا الوضع، بحيث لا تستقر اﻷشياء على أرضها ولا تسقط، إنّما تبقى متدليةً. فالهاتفُ والمذياع والنّافذة والشّماعة والمنضدة كلّها اشياء معلقة في السّماء شأنها شأن صاحبة المنزل. حتّى تلك الموسيقى النّابعة من بطن آلة اﻷطلس المتوسط لوتار لا تقول بأنغامها شيئاً محدداً مرتبطاً بموسيقى فزاز، إنّما تسيح بعيداً عن موطنها في قوالبَ نغميّة، لا هي مُحزنة ولا هي مبهجة، إنّما مفتوحة بخيالها على احتمالاتٍ عدّة ترافق البوح والتّداعي. ورغم ذلك نجدُ شيئين مستقرين على اﻷرض: أولاً؛ ركامٌ من الكتب الّتي تطبق عليها مزهرية بأزهارها الذّابلة، شأن حلم تودة في مزاولة صنعة الطّب. ثانياً؛ مرآة تودة الّتي تستعملها تارةً للبحث عمّا تبقى من أمارات الجمال في وجهها الشّاحب وجسدها المترهل، وتارةً للبحث عن هوية لوضعها الهجين وهي في خضم جدالٍ حادٍ مع زوجها الكلبي. لكن المرآة لا تهدأ مع ذلك على موضع محدد، شأن الشخصيات والحقائب والمنضدة. ما لم يكن معلقاً فهو مجرور.

تقتحمُ تودة الخشبة في أوّل لقائها مع المشاهد بخطىً ثابتة على آهات أغنية مناجيّة، ثمّ تنحني ملتقطةً بعض أوراق الزّهر، ثمّ تبدأ لعبة الطّالع، لكن الطالع هذه المرة ليس متعلقاً بمتلازمة “يحبني.. لا يحبني” كما هو معتاد. هيهات ثمّ هيهات أن يكون الحبّ موضوعَ مناجاةٍ لامرأة تعتبر رؤية زوجها مرّة في العام أمنية يُقدم من أجلها النّدر السخي والقربان الثّمين. لا مجال للحُبّ حيث الشّغل الشّاغل هو الحضور. “غادي يجي.. ماغاديش يجي..”، هي المتلازمة الّتي ستتغنى بها تودة وهي تنثرُ اﻷوراق حتى تستقر على الورقة اﻷخيرة “سيأتي” لتخرجَ إلينا راكضةً من وراء ستار شفاف. فهل هذا الاستقرار من وحيّ الطّالع أم أنّه من عنديات هوامات تودة الدفينة؟ المؤكد أنّ ثمّة أمل قوي لدى هذه الشّقية بأن يحضر زوجها. فتبدأ اللعبةُ، لعبةُ الاستحضار لا الحضور.

تعجُّ المسرحيةُ بلحظاتِ البوح، هذه اﻵليّة التّطهيرية الّتي اتخذها التّحليل النّفسي آليّة دفاعٍ لدرء المبكوتات الدّفينة والسّيطرة على التّوترات الدّاخلية. لقد صار البوح بفرط حضوره واقعاً يجملُ صورةَ تودا ماضياً وحاضراً، ويسطِّرُ بإلحاحٍ أماني اللقاء في خطاب مسرحيّة عنوانه المضمر “في البحث عن الزّوج المفقود”. هذا الزّوج الّذي سلم مصيره لفيلكس موغا في ستينيات القرن الماضي تاركاً خلفه زوجة/ أم/ مخطوبة تعيشُ على بساط الانتظار. ولعلّ أهازيج الذّاكرة الشّعبيّة في الجنوب الشّرقي التي تم نسجها عن هذا الضّابط العسكري لأفضل شاهد على هذه النّزعة الانتظاريّة المتوجسة الّتي حفرت وجدان النّساء. وحسبنا أن نذكر البعض منها:

“يوليد موغا س لبيرو مسمرير

يوسي البلار زريناغ حياتي

أسيمتاغ إلبط أتيرباتين

هات إداد موغا اداغ يفضح يوغول”

تقولُ هذه اﻷشعارُ في معناها: “جاء موغا إلى مكتب مسمرير.. ليأخذ كؤوس البلور ويترك كؤوس “حياتي”.. أيّتها النسوة، لنتشح بالبياض.. لقد جاء موغا ليفضحنا ويذهب”. تُعبِّرُ اﻷشعارُ عن هذه اللحظة الفارقة في تاريخ الجنوب المعاصر وآثار الهجرة على الرّوابط الاجتماعيّة وما يستتبع ذلكَ من آثارٍ نفسيّة على النّساء بالخصوص، لكون هذه الشّريحة مُطالبة بتحمل أعباء المسؤوليّة المنزليّة، وأعباء الفراق الزّوجي أو حتى أعباء العنوسة. وما دلالة الاتشاح بالبياض هنا إلّا إدراك مبكر للترمل الّذي سيلحق بهنّ فور هجرة رجالهن إلى مناجم الشّمال بفرنسا.

ولا زالت تودا تحتَ نير الانتظار حتّى تحوّلت هواماتها إلى واقعٍ مجسد على الخشبة، يظهرُ فيه سعيد فجأة بشحمه ودمّه ليدخلَ معها في حوارات بزنطيّةٍ مرتبكة الإيقاع ومتصاعدة النّبرة. وتكون مواضيع النّقاش والمجادلة عناصر علائقيّة وحميمية ليس من المعتاد أن نراها على صهوة اللغة المعنلة في الثّقافة القرويّة. فيُناقش الحبّ، والاهتمام، والإحساس والرّغبة الجنسيّة وأشياء أخرى. وبينما يصر سعيد على اعتبار تلبية الحاجيات الماديّة العنصر اﻷساس في العش الزّوجي، تلحُ تودة على أهميّة الحاجيات العاطفيّة والوجدانيّة. نقاش يذكرنا بعبارة تولستوي الشهيرة التي دبج بها روايته “آنا كارينينا”، إذ قال “كلّ اﻷسر السّعيدة سعيدة للسبب نفسه، وكلّ اﻷسر التعيسة تعيسة لأسباب كثيرة”. هناك أسباب كثيرة تهدد نجاح واستقرار العش الزوجي، وفي حالة تودى إنّما تلتحم أسباب كثيرة لتنسجَ خيوط معاناتها مع الفراغ والانتظار وسلطويّة الزوج، معاناة لا تغذي فيها في آخر اﻷمر غير ملكة اللامبالاة.

مَن هو سعيد في المسرحيّة، إن لم يكن صورة مضخمة عن الهيمنة الذّكورية المتجذرة في الثّقافة المغربيّة؟ كلماته اﻵمرة، نظراته الكلبيّة، ظهوره واختفاؤه اللامشروط، مكالماته الهاتفيّة المفجعة، كلّ شيء في سعيد يوحي بالهيمنة والتّراتب الاجتماعيّ. وحينما تستحضره تودة في خيالها، فإنّما تستحضره لا باعتباره شخص ما وفقط، بل تستحضره بكلّ مستتبعاته الثّقافيّة. فنرى سعيد بكلّ عنفوانه ورمزيته يظهر فجأة شهوانياً وعربيداً وسلطوياً في آن، وفي آخر اﻷمر لا نجد لحضوره من مبرر سوى مخيال تودة الّتي عشنا معها لا كممثلة تؤدي دورها، إنّما باعتبارها”مخرجة” صورت لنا سعيد بتفاصيله على خشبة من عنديات هواماتها. وفي اﻷخير ليس سعيد سوى معطف حولته رمزيتُه الثّقافيّة إلى حضور “مجسدن” بلحمٍ ودمٍّ. لكن سرعان ما يتلاشى هذا الجسد حينما تستفيق تودا فجأة من سباتها الوجداني لتعانقَ فراغَ اﻷيام وترقص على معزوفة الوحدة ولسان حالها يدندن قصيد بدر شاكر السياب:” رحل النهار.. ولا زلت تنتظرين عودة السندباد من السفار.. أوما علمتِ أنّه أسرَته آلهةُ البحار..”

سيكاتريس هي مسرحيةٌ تحكي بلغة المسرح ندوب المرأة في العالم القرويّ بشكلٍ عامٍ والجنوب الشّرقي بشكلٍ خاصٍ، لتزيلَ السّتار عن قضايا اجتماعيّة من قبيل الهجرة وتفكك الرّوابط الاجتماعيّة والهيمنة الذكورية، وما يسفر عن هذه القضايا من مآسي اجتماعيّة من قبيل التفكك اﻷسري، والترمل، والعنوسة، والعنف الزّوجي، والعنف الجنسي..إلخ. ولئن كانت المسرحية محاولةً ضمن محاولات سابقة، فقد ميزها جدّة اللغة المسرحيّة المستعملة في قالبٍ ممزوجٍ ومحبوكٍ بين الخطاب والموسيقى الحيّة والسينوغرافيا والصّورة المُسلطة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.