في إحدى لقاءاته الحوارية على قناة تونسية أشار المفكر التونسي فتحي المسكيني إلى أن “الغرب أصبح مقبرة أخلاقية”، وهذا صحيح، فلا يعتور الباحث شك في وجود أزمات واختلالات أخلاقية خانقة لديه، تلقي بظلالها على كل المجتمعات التي تقع تحت هيمنته، ومجتمعاتنا على وجه الخصوص نحن الذين ما زلنا رغم هيمنة براديغم “الإنسان المتفكك” نتشبث بمصادر أنفسنا بوصفها الأساس الذي تقوم عليه قواعدنا الأخلاقية، و تماسكنا الاجتماعي، بل إننا قد نجد مخلفات تلك الأزمة في تفاصيل حياتنا بسبب تصديرها عبر قنوات كثيرة أو تسييلها (من السيولة) بتعبير زيغمونت باومان، إما عن طريق تقنينها أو اعتبارها حقوقا إنسانية أو قيما كونية… أو غيرها ..
قد يتهمنا البعض أننا نقف من الغرب هذا الموقف فقط من باب محاولاتنا البائسة لتبرير هزائمنا الحضارية أمامه، لكن لا تعوزنا الإجابة عن ذلك باستحضار الكثير من الكتابات من داخل المجال التداولي الغربي، التي تعالج الإشكاليات الأخلاقية في الغرب، في مرحلة الحداثة وما بعد الحداثة بوصفها نتاج أو مآلات للحداثة.
في كتابه “حكومة العالم الخفية” كتب “شيريب سبيريدوفيتش” عن المنظمات الإنسانية للأمم المتحدة فاضحاً إياها بقوله: “ما الذي تنادي به هذه المنظمات؟! تنادي بحرية المرأة وحقوق الإنسان وحقوق الطفل وتنظيم النسل وتحديده وغيرها، وكل هذه الحريات والحقوق عند المناداة بها غالباً ما تأخذ الطابع السياسي. فانظر إلى الدول المتهمة بانتهاك هذه الحريات وهذه الحقوق، هي الدول العربية الإسلامية أولاً والدول الإسلامية غير العربية ثانياً والدول الشيوعية، وما عدا ذلك إذا كان موجوداً فهو لذرّ الرماد في العيون، فما الذي يريدون من وراء ذلك؟! أنظر إلى الحياة الإجتماعية في الغرب، الذي سمح ويسمح بهذه الحريات والحقوق، تجد أن الإجابة هي ما يلي: تحرّر الفكر، فنتج الكفر والإلحاد وعبادة المادة وتقديسها، تحررت النساء فتنازلن عن دورهن الفطري في الأمومة والتربية، فنتجت كافة أنواع الإباحية والفجور والدعارة وأصبحت لحوم النساء عرضة للكلاب الضالّة. وتحرّرت الطفولة، فتطاولت على الآباء والأمهات والمعلّمين والمعلّمات وتمرّدت عند البلوغ لتترك الأسرة، وطفقت تبحث عن إشباع الغرائز والشهوات. لنخلص من ذلك إلى أن المطالبة بحماية هذه الحقوق والحريات هي في الأصل دعوة للتمرد على الطبيعة البشرية وأبجدياتها، وعلى القيم الروحية والأخلاقية التي قدّمتها الأديان السماوية كمنهج للحياة، تهدف إلى ضرب الأسرة، اللبنة الأساسية في بناء المجتمعات بحرمان الأب من دوره القيادي، مما يؤدي إلى تفكيك العلاقات ما بين أفرادها، وضياع الرؤى المشتركة للبقاء والإستمرار …”.
ويحدثنا الفيلسوف وأستاذ العلوم السياسية في جامعة “رين” الفرنسية “فيليب بينتون”، في مقدمة كتابه النقدي “الاختلال الأخلاقي للغرب”، أنه “بدءاً من عام 1960 دخل العالم مرحلة أخلاقية جديدة، لم يسبق له أن عاش مثيلاً لها، أو على الأقل من النادر أن نعثر على وضع مشابه، حيث صار كل منا متوجاً على عرش سلطة فردية غير مسبوقة. الفرد الغربي تحديداً، صار مستقلاً، متحرراً، من أي عوائق علوية أو طبيعية تكبح جماحه. كل فرد هو بشكل من الأشكال، إمبراطور على مملكته، يفعل بحياته الخاصة ما يشاء”.
يحاول “فيليب” من خلال كتابه فهم المأزق الذي تعيشه المجتمعات الغربية بعد أن سجنت نفسها بمفاهيم محددة تحولت إلى قيود لا تستطيع الفكاك منها. وهي قيود اصطلح على اعتبارها مسلمات لا تناقش سلبياتها مثل “الحرية” و”المساواة” و”حقوق الإنسان”. فضيلة هذا الكتاب أنه يسأل –وهو نادراً ما يحدث- إن كانت هذه المفاهيم التي يعتدّ بها الغرب ويعممها على البشرية خيراً مطلقاً.
في الوقت الذي تتفق فيه الكثير من الأطروحات الفكرية الغربية على القول بتفكك الإنسان الغربي بل وسقوط الإنسانية في بوثقة اللاإنسانية بسبب نزوعها إلى تسييد الغرائز، نجد من المكابرين عندنا من يريدنا أن نسير في نفس المسار تحت مسميات عديدة كالحداثة والعلمانية وحقوق الإنسان…، وهو لا يدري نتائجها الكارثية على الإنسانية، بل هناك من يعمل جاهدا على تحريف/تأويل مصادر النفس عندنا، وأقصد دلالات النصوص الدينية، حتى تتفق وتتسق وتتساوق مع تلك الانحرافات السلوكية والأزمات الأخلاقية، فقط لأنه لا يرى سبيلا إلى خروجنا من بوتقة التخلف إلا بتحطيم ما تبقى من مصادر أنفسنا وإنسانيتنا، وانتمائنا الروحي.
ولأننا نعيش على وقع أزمة أخلاقية/روحية بكل تمثلاتها نتيجة هذه التبعية العمياء، بل ونكتوي بنارها تحت لهيب الهيمنة والعولمة، يخبرنا فتحي المسكيني بأننا في مثل هذا الوضع البشري تأتي ضرورة العودة إلى مصادر النفس، مقتبسا هذا المفهوم (أي مصادر النفس) من كتاب للفيلسوف الكندي “تشارلز تايلور” الذي يحمل نفس العنوان، أو مصاد الذات، والتي يعني بها الرجوع إلى أنفسنا العميقة، أو مراحل مكثفة من تراثنا الفكري والحضاري، كالعودة إلى اللغة العربية أو المعلقات أو القرآن الكريم، وكتب الفقه، والفلسفة الإسلامية، رادا على من يريد تنويرنا ذلك التنوير العنيف الذي يدعو إلى نوع من القطيعة الإبستمولوجية مع هذه المصادر، بأن “كل هذا التراث ليس آثما كما يمكن أن يظن المتعجل الآن في ساحة الفكر المليئة بالمتعجلين، إذ الغرب نفسه في، رأيه، لم يعد يتمتع بالوعي السعيد بنفسه، فهو منذ أوروبا مابعد الرومنسيين إلى الآن وهو يجلد ذاته أمامنا، ونحن مازلنا نعود ونحيل إلى نصوصه ما قبل الرومانسيين، وكأن الغرب مازال في القرن 18 …”، يضيف المسكيني: “العديد من الزملاء/المتعجلين، ويقصد المثقفين الذين يعدوننا باستنساخ النموذج الغربي، يريدون أن يختصوا دائما في القرن 17، لا يريدون أن يروا ما أصبح عليه الغرب منذ القرن 19 إلى الآن، الذي أصبح مقبرة أخلاقية”(*).
(*) مقطع من حوار المفكر فتحي المسكيني:
https://fb.watch/6lyaRj07PX/
المصدر : https://tinghir.info/?p=57221