سنوات قليلة خرج منها بنتيجة مفادها أن الحياة حقيقة يجب البحث عنها، وأن الرحيل معادلة مجاهيلها كثيرة وحلولها أيضا كثيرة، لمن شاء أن يبحث وينقب قصد الظفر بتأشيرة لامعة تجيز لك الركوب على متن باخرة أو استقلال طائرة، وأن تحس بدوار فظيع، أفظع من ذلك الذي تحس به إذ تجتاز بك حافلة مهترئة جبال تيشكا، في التواء لعين لا يكاد يتوقف حتى تشعر بأن عينيك توشكان على الخروج من موضعهما. نعم، لا بأس، سيتقيأ كثيرا وسيزعج مضيفات الطيران، وقد يحدث أن تسبه إحداهن جهارا نهارا ؛ لكن لا بأس، كل شيء يهون في سبيل النزول على أرض سيعيش فيها، أرض ستشعره بإنسانيته، أرض سيتعلم فيها الكثير، سيجلس على مقاعد جامعاتها المرموقة وسيلتقي فيها أساتذة أجلاء، سيماهم في وجوههم من أثر الوقار والهيبة والتحضر. أولئك الأساتذة الحقيقيون لا تمتهم صلة ببعض أشباه الأساتذة الجامعيين هؤلاء، الذين ساقته الأقدار اللعينة إلى الجلوس قبالتهم والنظر في وجوههم الشاحبة التي تزيد حياتك ضنكا وشقاء.
يفتحون أفواههم فتسمع قولهم وكأنهم خشب مسندة أو أجثاث نخل خاوية. يصيبك حديثهم بالغثيان ويولد فيك رغبة جامحة في التقيؤ بكل ما أوتيت من قوة، حتى تملأ تلك القاعة قيئا وترسلهم إلى مزبلة التاريخ.
يظنون أنهم ملكوا مفاتيح العلم كلها وسيطروا على مكامن المعرفة جلها؛ لكن هيهات هيهات. هي عقدة بل عقد نقص عملاقة تشعرهم بالشتات الداخلي، فتراهم لا يقبلون انتقادا ولا يحتملون مقارعة فكرية. صاحبنا انتقدهم مرارا وتكرارا ووقف في وجههم وناقشهم وحاججهم، فمنهم من فرَّ بذريعة أن ذلك موضوع آخر ، ومنهم من أمره بأن لا يوجه إليه مثل ذلك الخطاب اللاذع والقاسي، قساوة الجغرافيا التي نشأت فيه شوكته وتقوت على صبارها عزيمته.
الأساتذة الحقيقيون هناك سيمكننونه من نسيان بعض أشباه الأساتذة هنا. تلك البلاد “ستنسيه” ثلة من أشباه الأساتذة الذين يوزعون العلامات العلى على ذوات النهود الممتلئة والقدود الممشوقة؛ يمنحونهن منحة يفرحن بها ويحتقرن سواهن ممن لم يرضين الذل لأنفسهن واخترن طريق الكرامة والعزة. ستنسيه تلك البلاد في كل هذه الدناءة. صاحبنا، عليه أن يخرج من هنا، قبل أن يكسر أنف هؤلاء الحثالات، الذين أفسدوا لطالب العلم طموحه وألقوا به في جب لا يعرف لها قعر، ليتيه فيها ويغيب خبره.
يريد أن يرحل من هنا قبل أن يأخذ بناصية أحد أولئك الأذلاء الذين يحملون حقيبة”الأستاذ”، عسى أن يكون من أصحاب الحظوة فيناله نصيب من مقاعد الماجستير أو الدكتوراه، التي يوزع عدد منها على المتزلفين والمتملقين، مثلما كانت توزع صكوك الغفران إبان العصور الوسطى. يجب أن يرحل من هنا قبل أن يصاب بالجنون. لا يمكن لإنسان يحمل في نفسه مضغة من الكرامة أن يستحمل كل هذه الحقارة التي تصول وتجول في أروقة ” الجامعات” ومدرجاتها” بلا حسيب ولا رقيب.
كان يرى كرة الفضلات تلك تتضخم كل يوم، وكان لا بد من الفرار والنجاة بإنسانيته قبل أن تبتلعه… من خاف نجا.
سيشكر صاحبنا أبد الدهر أولئك الأساتذة الحقيقيين، أولئك الذين أوتوا العلم والحكمة والرزانة ولا يظلم الطالب عندهم .
المصدر : https://tinghir.info/?p=54869