أول عتبة لفتت انتباهي في رواية “المنبوذ” للكاتب السعودي عبد الله زايد هو عنوانها، “المنبوذ”، عنوان أو اسم ألقى بي في غياهب التساؤل القلِق قبل قراءتها: هل بطل الرواية منبوذ بسبب مواقفه الفكرية وقناعاته المعرفية كما حدث معي في فترات متفرقة من حياتي ومازال يحدث؟، أو بتعبير جبران خليل جبران حين قال في بيتين جميلين:
فإن رأيتَ أخا الأحلام منفرداًعن قومه وهو منبوذ ومُحتقَرُ فهو الغريب في الدنيا وساكنهاوهو المهاجرُ، لام الناسُ أو عذروا
وعندما اقتحمت حمى الرواية قراءةً، وجدت أن الأمر كما ظننت، المنبوذ، بطل الرواية، شاب وسيم، اجتمع فيه ما تفرق في غيره، صحة جيدة، أخلاق راقية، ويمتاز بشخصية تثير إعجاب أو غيرة رفاقه، بيد أن ذنبه الوحيد هو أحلامه وطموحاته وآراؤه الفكرية التي لا تنسجم مع الخط السائد في مجتمع يفتقر إلى القدرة على الفهم وروح التسامح وتقبّل الاختلاف .. يقول الشاب المنبوذ كما جاء على لسانه في الرواية: “إن الله قد خلقني حراً، ولم أكن في أي يوم عبداً عند أحد، وإن الإنسان الحر هو من يصدح برأيه دون تردد أو خوف من أحد.”
يمكننا الاستئناس هنا بذكر مفهوم الغرباء ومفهوم المُتَوحِّد، وهما اسمان يتقاسمان مع المنبوذ نفس المعنى والدلالة، نعتت بهما هذه الشريحة من الناس التي تعاني من النبذ الاجتماعي بسبب مواقفهم وآراءهم الفكرية، أما الغرباء فذكره أبو حيان التوحيدي في كتابه “الصداقة والصديق”. كما ذكرهم بن باجة الذي لم تحصّنه قدراته الفلسفية ومعارفه الطبية من السم الذي دسه له منافسوه والمختلفون معه فمات بسببه، في كتابه ” تدبير المتوحِّد” فسمّاهم بالمتوحِّدين..
فهم منبوذون غرباء متوحدون، ليس فقط من المجتمع بتقاليده وعاداته البالية التي يحتكم إليها في العلن حين يرغب في إنزال سوط الرقابة على عقول المختلفين وأفعالهم، ويغتصب عذريتها في الخفاء، وتحت أستار النفاق، بل أيضا من فئة منمطة تنميطا دوغمائيا ترى في قرارة نفسها الفئة المالكة للفهم والتصرف وحسن التدبير سواء كانت متدينة أو تدعي الحداثة والتقدم، لكنها في الأصل نتيجة من نتائج نظام التفاهة بتعبير المفكر الفرنسي “آلان دونو”.. تفشل في المقارعة الفكرية، والجدل المعرفي، لكنها تمتلك القدرة على تلفيق التهم، وتتحدث لغة التزييف، للابقاء على السواد الأعظم من الحمقى والجهلاء الذين يحومون حولها كما يحوم الحمار في الرحى…
لكن الإنسان، في نظري على الأقل، هو هذا الكيان الهائل الذي أتى الحياة ليكون موضع التجريب فيها، وليثبت لها أنه صانعها، صانع حياته ، كحد أدنى.. وليس نسخا مكررة عن آخرين.. فأنا أحب أن أبقى في خانة المنبوذين الغرباء المتوحدين الذين يصنعون تاريخهم بعيدا عن أنساق وأنماط المجتمع وبنياته المقهورة والمتخلفة ونظامه التافه، على أن أنساق وراء الوقوع في شرك الخضوع لأي أحد لغرض حشد المعجبين والمطبلين، بالعزف على دغدغة مشاعرهم العاطفية أو الخبزية … واكيد أن النتيجة الحتمية لهذه المحبة هي النبذ الاجتماعي بكل أشكاله وتمثلاته، أوكما قال كاتب رواية المنبوذ: “لا غرابة في أن تُهان، ولا غرابة في أن تُطرد، وأن تُحتقر” …
المصدر : https://tinghir.info/?p=54646