Ad Space

“تازارت إزضان” .. أكلة مكونية-دادسية تصل حتى إلى إسرائيل

admin
2020-12-18T21:46:35+01:00
آخر الأخبارمحلية
admin18 ديسمبر 2020
“تازارت إزضان” .. أكلة مكونية-دادسية تصل حتى إلى إسرائيل
مصطفى ملو

تشتهر واحتا مكون ودادس بإقليم تنغير جنوب شرقي المغرب بانتشار أشجار التين التي تعتبر من الأشجار المستوطنة بالمنطقة، ومما يدل على أنها أصلية وليست وافدة كما قد يعتقد البعض أنها نابتة في أماكن وعرة وعلى علو شاهق يستحيل وصول الإنسان إليه، وهو ما يعني أنها نمت في تلك المضايق والخوانق والأجراف المرتفعة “نموا ذاتيا” وليس “بفعل فاعل” منذ زمن غير معروف. ومعنى هذا أيضا أنه شجر بري لا ينبت فقط بالغرس ولكن بمحض إرادته كذلك.

علاوة على هذه المعاينة الميدانية التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك الأصل المحلي للتين المكوني والدادسي (نسبة إلى واحتي مكون ودادس)، نجد كذلك بعض الباحثين في تاريخ المنطقة يرجحون هذا الأصل، من بينهم الباحثة فاطمة عمرواي في كتابها “دادس من بداية الاستقرار إلى تدخل الكلاوي”، حيث تقول: “يعتقد أن جنبات وادي دادس عند اكتشافه على يد مولاي باعمران كانت غابة من أشجار التين والزيتون، وهو اعتقاد يطرح مجموعة من التساؤلات، ويجعل شجر التين شجرا دادسيا منذ القدم”.

“تازارت إزضان”.. التين المطحون قديما

نظرا للانتشار الكبير لشجر التين على ضفاف وادي مكون ودادس كما سلف ذكره، فإن الإنتاج يكون وفيرا في الواحتين خلال كل موسم جني، إنتاج يتجاوز الحاجيات المعيشية اليومية، لذلك نجد جزءا كبيرا منه يوجه إلى البيع سواء في الأسواق المحلية وحتى بعيدا عن المنطقة.

وفرة الإنتاج هاته دفعت المكونيين وجيرانهم الدادسيين إلى البحث عن طرق مختلفة وابتكار أساليب متنوعة من أجل استغلال أكبر للمنتج والحفاظ عليه إلى وقت الحاجة ما دام استهلاكه كليا وهو طازج أمرا غير ممكن، فكانوا يجففون التين فيما يطلقون عليه “تازارت تاقورات”، أو يملحونه وهو طازج للحيلولة دون تعفنه وتسوسه، ونثر دقيق الشعير عليه لامتصاص البلل قبل تعبئته في قلل طينية مدهونة بالزيت أو السمن تكون مخصصة لهذا الغرض.

ومن الطرق المستعملة في استهلاك هذا التين دق بعضه فوق بعض إلى أن يتحول إلى ما يشبه عجينا يسمى “تالبوزت”. وتهم هذه العملية التين اللوي الذي يكون في حالة بين الرطب واليابس.



aid

ويبقى تجفيف التين وطحنه، أو ما يُعرف بـ”تازارت إزضان”، أكثر الطرق استعمالا في استهلاك التين على مدار السنة، وأكلة عرفت بها الواحتان منذ القدم، ومازالت إلى يومنا هذا من الأكلات الرئيسية عند أهالي المنطقة، وخاصة في فصل الشتاء وفي موائد الفطور خلال شهر رمضان. ويرجع السبب الذي اهتدى به أهل مكون ودادس إلى سحق التين، حسب روايات شفوية من المنطقة، إلى كون الشيوخ غير قادرين على تناول المجفف منه لصلابته، ما يسبب لهم وجعا في الأسنان أو لأنهم فاقدوها أصلا، فحل “المهراز” محلها، يقول أحدهم مازحا!.

“تازارت إزضان”.. من التجفيف إلى الطحن

تمر” تازارت إزضان” أولا بمرحلة التجفيف التي تكون على أسطح المنازل أو في بيادر صغيرة معرضة لأشعة الشمس والتهوية، تعرف محليا باسم “إفسران”، ومفردها “إفسر”، حيث تُفرش لها حصوات صغيرة لمنع التصاق الأتربة بها وتحاط بأحجار تحد بيدر فلان عن بيدر علان؛ كما تستعمل هذه الأحجار لمنعها من التشتت..وبعد تجفيفها تحت أشعة الشمس، تأتي مرحلة تجفيف آخر هذه المرة في الظل وفي مكان بارد، لأجل ذلك يتم نشرها ليلا في الأسطح، لأن الحرارة المعتدلة أثناء الليل تمتص مياهها وتجعلها صلبة أكثر وقابلة للطحن بشكل جيد، في حين أن تعرضها لأشعة الشمس من جديد يجعلها ندية فيكون طحنها صعبا يتطلب وقتا طويلا ومجهودا مضاعفا، وإلا فإنها تتحول إلى عجين ناقص الطحن، لذلك يستحسن جمعها من الأسطح قبل شروق الشمس.

بعد مرحلة التجفيف تأتي مرحلة الانتقاء والتنقية التي تتولاها النساء، حيث يقمن بعزل الحبات الرديئة عن الثمار الجيدة وفصل الأخيرة عن الجزء الذي تلتصق به في الشجرة (تاكبّوست أو تاخنزورت)، ثم فتحها لإزالة ما قد يعلق بها من أتربة وأوساخ.

تشكل عملية الطحن المرحلة الأخيرة في مسلسل “تازارت إزضان”، التي كانت في ما مضى تتم بواسطة طاحونة يدوية مصنوعة من جزأين من الحجر تسمى “أزرك”، أو عن طريق الهرس بمدق يدوي يسمى” تافردوت”، أو على صخرة مسطحة تسمى “إفليلو”، لتصبح بعدها جاهزة للأكل.

“تازارت إزضان” حديثا

في الآونة الأخيرة لم تعد عملية الطحن تتم بتلك الطريقة التقليدية التي تحدثنا عنها سلفا، بل حلت المكننة مكان المجهود العضلي للنساء اللواتي كن يتكلفن بالعملية من ألفها إلى يائها، إذ ظهرت وانتشرت بكثرة في نواحي قلعة مكونة وبومالن دادس مجموعة من المطاحن العصرية التي تتولى هذه المهمة، على شكل مقاولات صغرى تتكلف إما بالطحن فقط للراغبين في ذلك، ويتراوح الثمن بين درهم ودرهمين للكيلو، أو تقوم بالعملية من البداية إلى النهاية، أي شراء المادة الأولية ثم تنقيتها، فطحنها وتعليبها وتسويقها.

ولم يكن ثمن “العبرة” (ما بين 10 و13 كيلو) من التين المجفف، الذي تنتشر نقط بيعه إما في الأسواق المحلية أو في محلات داخل دواوير واحتي دادس ومكون، يتجاوز 40 حتى 60 درهما في حالة وفرة المنتج وقلة الطلب، وبين 100 و150 درهما في حالة ندرة المحصول وارتفاع الطلب عليه؛ في حين قفز في السنوات القليلة الماضية إلى 350 درهما للعبرة الواحدة.

وإلى جانب المطاحن الشخصية، برزت تعاونيات متخصصة في هذا الميدان كتعاونية شريحة صاغرو بزاوية البير-سوق الخميس دادس، التي تشغل حوالي 20 عاملة وتعتبر رائدة في هذا المجال، إذ انتقل إنتاجها من 20 طنا سنة 2013 إلى 35 طنا سنة 2014، في وقت من المنتظر أن يتجاوز إنتاجها حاليا 50 طنا، توزعه محليا وفي الأسواق الوطنية، سواء الشعبية منها أو الممتازة في مدن عدة (الدار البيضاء، أكادير، أسفي، طنجة…).

ولأن استمرار الإنتاج يقتضي الإبداع والابتكار والعصرنة، فإن عددا من التعاونيات والمطاحن تحاول التجديد بإبداع أنواع مختلفة من التين المطحون؛ فإلى جانب الخالص نجد التين المطحون مع التمر و”كوكتيل” مكون من التين والجوز واللوز والتمر، والمطحون مع زيت الزيتون الذي يتم ترقيد أعشاب طبية محلية فيه لأيام قبل خلطه بالتين، توجد في أوزان وأشكال متنوعة تختلف أثمانها حسب المكونات والتعليب.

فوائد التين المطحون وقيمته الغذائية

يكون الإقبال كثيفا على استهلاك التين المطحون بواحتي مكون ودادس في فصل الشتاء، فمنذ القدم فطن الإنسان في هذه المناطق إلى أن “التين فاكهة الصيف ومؤونة الشتاء”، فاهتم بتجفيفه وتخزينه لمواجهة جوع وبرد ليالي الشتاء الطويلة، وتحسبا لمجاعة أو جفاف قد يضرب المنطقة (مثل جفاف الثمانينيات)، أو لفيضانات تحول مناطق شاسعة من الواحتين إلى جزر معزولة عن العالم الخارجي بلا مؤونة ولا طعام، غير ما ادخروه في “أحانو ن الخزين”، الذي يعني غرفة خاصة لتخزين ما تنبته الأرض من بصلها وفولها وتينها وجوزها ولوزها…

وليس المكونيون وحدهم ولا الدادسيون من أقبلوا على تناول التين إما طازجا في فصل الصيف أو مجففا في وقت البرد، بل عرفه الإغريق والرومان، إذ دلت حملات التنقيب في مدينة بومبي (Pompeii مدينة رومانية قرب نابولي الإيطالية) على وجود التين المجفف…ومن هنا كانت للتين قدسية كبيرة عند الرومان؛ ويرجع سبب الإقبال عليه بكثرة في فصل الشتاء إلى كونه غنيا بالسكريات، ما يعطي الجسم سعرات حرارية تمنحه القوة والطاقة اللازمتين لمواجهة قر الشتاء القارس؛ حتى إن أهالي دادس ومكون يعتبرونه علاجا فعالا لنزلات البرد.

ولما كان التين يمد الجسم بالطاقة، فقد أقبل عليه العبيد والمزارعون والرياضيون إلى درجة أن الدولة الإغريقية في فترة من الفترات التاريخية منعت تصديره إلى الدول الأخرى.

يتكون التين من سكر الديكستروز Dextros الذي يشكل 50% من محتوياته، إضافة إلى فيتامينات A وBوC ونسب عالية من الكالسيوم وأملاح الحديد والبوتاسيوم، حيث تبلغ السعرات الحرارية لـ100 غرام من التين الطازج 70 سعرة في حين تصل إلى 270 سعرة لنفس الوزن بالنسبة للجاف، وهذا ما يفسر هذا الاهتمام الكبير بالتين الجاف، خاصة في أوقات البرد.

لقد استعمل التين في الطب القديم، حيث يعتقد أنه يجلو رمل الكلي والمثانة ويغسل الكبد والطحال ويسكن العطش والسعال، وينفع مع خشونة الحلق والقصبة الهوائية، كما له استعمالات وفوائد لا تعد ولا تحصى، إذ يستخدم كملين طبيعي ضد الإمساك، ومهدئ للأعصاب…

“تازارت إزضان”.. تصل حتى إسرائيل!

منتوج تعاونية “شريحة صاغرو” من التين المطحون، وغيرها من الجمعيات والمطاحن المنتشرة على طول وادي دادس ومكون، لا يقتصر تسويقه فقط على الأسواق المحلية والوطنية، بل يتخطاها إلى الخارج، إذ يؤكد يوسف أيت صالح، أمين التعاونية، أن كميات مهمة تصل إلى إيطاليا وهولندا وفرنسا وكندا، وحتى تل أبيب بإسرائيل، ليس عن طريق التصدير، بل من طرف الجالية المحلية المقيمة بهذه الدول واليهود المغاربة من أبناء المنطقة الذين يأتون من إسرائيل سنويا لزيارة موطن آبائهم وقبور أجدادهم في مقبرة تيليت بزاوية البير خميس دادس أو مقبرة “توزريكت” بجماعة أيت واسيف، إذ لا مفر لهم من أن يأخذوا معهم أثناء طريق العودة شيئا يذكرهم بماضيهم وماضي آبائهم، شيء يشمون فيه رائحة الوطن الأم، إما يحتفظون به لأنفسهم في انتظار زيارة مقبلة قد تأتي وقد يتوفاهم الأجل قبلها، لأن أغلبهم مسنون، أو يقدمونه هدية لأصدقائهم وأحفادهم لتذكيرهم بأصولهم المغربية..ومنه “تازارت إزضان” التي ربما يرجع لهم الفضل في ابتداعها في الأيام الخالية، أيام الملاح.

على سبيل الختم

حتى أنت لا تنس وأنت تمر من أحد المراكز الحضرية لواحتي مكون أو دادس (قلعة مكونة، سوق الخميس، بومالن دادس)، أن تبتاع لك ولعائلتك إلى جانب قنينات ماء الورد أكياسا من التين المطحون؛ فقد يعينك في طريقك وقد تجعله هدية لعزيز، ولربما لن تجده في مدينتك، وحتى إن وجدته فبضعف ثمنه، لأن المنطقة الوحيدة ربما في المغرب التي تُعرف بطحنه هي منطقة مكون دادس.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.