كان لـ “أجست كونت” دوره في ظهور نزعة تأليه العلم واعتماد المنهج العلمي التجريبي كأسلوب للتفكير، والقول بإلغاء التفكير الديني والميتافيزيقي بوصفه نمطا من التفكير الذي تم تجاوزه بحسب قانون المراحل الثلاث الذي صاغه “كونت”، وقد تبعه في التنظير لهذه الرؤية كثيرون أمثال “جيمس فتر”، و”جوليان هكسلي” في كتابه “الإنسان يقوم وحده”، فبعد تطور العلم، حسب زعمهم، لم يعد للناس حاجة لإقحام (الله) في تفسير ظواهر الطبيعة، وهو ما ذهب إليه “إرنست هيكل” صاحب كتاب “أحجية الكون”، والذي يرى استقلال الإنسان بالعلم عن الإيمان والإله.
ينقل لنا الجابري في كتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم” كلاما لـ “وينتد” يصف هذه الرؤية بقوله: “في القرن السابع كان (الله) هو الذي يضع قوانين الطبيعة، أما في القرن الثالث عشر فلقد كانت هذه القوانين من صنع الطبيعة نفسها، أما في القرن التاسع عشر فإن قوانين الطبيعة يضعها العلماء أنفسهم”.(١).
ويبدو أن هذا الطرح كان من بين الأسباب التي ساهمت في انتشار ظاهرة الإلحاد بوصفه أيديولوجيا تؤله العلم، باعتباره المجال القادر على الإجابة عن جميع أسئلتنا، والكشف عن ألغاز الوجود الطبيعي، ومن ثم جاء الاعتقاد بأن العلم التجريبي يقود بالضرورة إلى الإلحاد، بل ويقف في صفه ويدعمه، ونعني بالإلحاد هنا إنكار وجود (الله) بوصفه خالق الوجود ومقنن قوانينه ومنزل الشرائع ..
وحتى من لم يقع في فخ الإلحاد مباشرة فقد يكون ضحية لإحدى أمهاته وأخواته وزيجاته، كالعلمانية التي تفصل بين الإله والعالم أو العلمانية الشاملة بتعبير عبد الوهاب المسيري، والربوبية التي تنفي تدخل الإله في تاريخ الإنسان عبر إرسال الرسل والأنبياء، والشكية التي تقول بنسبية الحقائق كلها وعدم وجود حقيقة مطلقة، واللاأدرية التي تقف متحيرة في الترجيح بين أدلة المتخالفين باعتبارها أدلة متكافئة.
ورغم ظهور فساد الربط بين العلم والإلحاد، وكساد مقولة أن العلم يقود إلى الإلحاد، لأسباب سنذكرها، إلا أنها الأساس الذي ينطلق منه الملاحدة للدفاع عن توجهاتهم، وفي نفس الوقت يتناقضون معه ويهدمونه بأيديهم، فالدفاع عن هذه المقولة لا يتم عبر مبدأ التجريب والملاحظة .. أي أن مقولة (العلم يقود إلى الإلحاد) ليست قضية علمية أساسا، بل يتم الدفاع عنها عبر الجدل والنقاشات العقلية والفلسفية التي تعتمد على مبادئ منطقية ميتافيزيقية وقضايا غير علمية، كمبدأ الاستدلال ومبدأ السببية ومبدأ عدم التناقض …وغيرها، وهذا تناقض صارخ يضرب النزعة الإلحادية في مقتل، وحتى العلم التجريبي نفسه لا يستقل في بنائه المنهجي عن هذه الأسس والمرتكزات، وهي مبادئ فطرية أولية مركوزه في الإنسان ابتداءً، وهي غير خاضعة للتجربة والملاحظة.
يمكن القول إن العلم ومنهجه ومبادئه ومرتكزاته لا علاقة له بالإلحاد وإنكار وجود الله، ولا بتلك الأيديولوجيات المنبثقة عنه، بل على العكس تماما، ولذلك يستنتج “هاغ غاتش- Hugh Gauch” أن “الإصرار على أن العلم يؤيد الإلحاد قد يحصل على درجات عالية من الحماس، ولكن درجات متدنية للمنطق”. كلام “غاتش” معقول جدا لأن منهج التفكير الذي يعتمد على الملاحظة لا يمكن أن ينكر ما لا يمكن ملاحظته. ولكن بالمقابل، ما يمكن للعلم فعله هو الإشارة إلى براهين يمكن أن يستخدمها الشخص في الاستدلال على وجود الخالق.(٢).
________
(١)- انظر كتاب “العلم ليس إلها”، للأستاذ محمد أمين خُلال. ص ٥٣ وما بعدها.
(٢)- الحقيقة الإلهية، الله والإسلام وسراب الإلحاد، حمزة أندرياس تزورتزس، ص ٢٩٤.
المصدر : https://tinghir.info/?p=50628