المتتبع لتاريخ الفلسفة من سقراط إلى هيغل يرى أنها مارست نوعا من الاقصاء و الإدانة لمقولة الجسد، وهو ما تبنته المسيحية أيضا حين اعتبرت الجسد خطيئة، وعلى هذا الأساس، فأي توجه للجسد يعتبر رؤية دونية في مقابل تعالي وسماوية الروح.
جاء نيتشه ليقلب الطاولة على هذه الرؤية المثالية والنظرة الثنائية، وعبر على لسان زرادشت قائلا: “أنا الجسد كله، ولا شئ غيره”، وعلى أساس هذا النقد الجذري يرى نيتشه أن الفلسفة المثالية ما هي إلا مرحلة فهم خاطئ للجسد، وهو الذي جعله يلقي بهجومه عليها، لكونها افتقارا للحياة، ليقلب الأمر رأسا على عقب بإعلانه أن الجسد هو العقل الكبير في مقابل العقل الصغير الذي هو الوعي، يقول نيتشه: “إن الغريزة هي أعظم أنواع الذكاء التي عرفها الإنسان حتى الآن، لقد بالغ الإنسان في تقدير الإدراك العقلي، وليس الإدراك سوى عملية ثانوية لإرادة القوة التي تجسدها الغريزة”.
في السياق ذاته يرى ميشال فوكو أن الفصل بين الإثنين (أي بين الروح/العقل والجسد/المادة) مستحيل على مستوى الواقع تماما مثلما لا يمكن الفصل بين الزمان والمكان في الفكر الإنساني، إلا أن ما يجب القطع به في نظره هو أنه لا تفاضل بين الروح والجسد، لقد أكد فوكو على التلازم العضوي والسببي بين الجسد والعقل، ولكنه في المقابل يضع الجسد على منصة الاهتمام والحظوة، وما العقل عنده إلا مجرد وظيفة، ليس هذا فحسب، بل إن فوكو يؤكد أن تحقير الجسد، وإنكاره وتغييبه بمثابة حرب مدمرة للروح أيضاً، لذلك فإن حق الجسد في الوجود علامة أولى لوجود الروح وسعادتها أيضا، ومن ثم أصبح الجسد والاحتفاء به عنده كناية عن الوجود، وبالتالي فالاحتفاء بالجسد حق تم إرجاعه لنصابه بعد أن تم تغييبه طويلا، ومن هذا المنطلق كان فوكو أحد أبرز مؤسسي فرع علمي ضمن علم الاجتماع يدعى “سوسيولوجيا الجسد”.
من الجدير بالقول أنني عند طرحي لهذه الرؤى الفلسفية المختلفة عن الجسد لا أبحث عن تحديد مفهوم واحد لما يمكن أن يسمى جسدا، فما يهمني هو تقريب القارئ من موضوعة الجسد في الفكر الغربي، وبالأساس الجسد المتحرر الذي نادت به الحداثة وما بعدها وما يتطلبه من اسقلالية وسيادة وتحرر وفردية، في مقابل الجسد الذي خلقته الثقافة الرأسمالية الحديثة وما يتطلبه من زينة وإغراء وفتنة. وما آل إليه وضع الجسد ضمن ثورة التكنولوجيا الرقمية…
إن النظام الرأسمالي بشكله الحالي قد خلق نوعا جديدا من الأجساد التي تُصنع للبيع والشراء، فقد تحولت الرغبة في تحرير الجسد من كل أنواع الطابوهات التي كانت تسيجه، كما رأينا سابقا مع نيتشه وفوكو، إلى مأزق بعد أن تحول هذا الجسد إلى بضاعة تُشترى وتُباع، يرى ماركيوز أن المجتمع الصناعي الحديث قادر على استنفاد طاقة الإنسان الجسدية، وجعله في خدمة تكنولوجيا لا تعمل إلا على مزيد من شعور الاغتراب لديه، والاستبدال بالحرية وهم الحرية، كالعبد الذي يختار سيده، وبذلك يخضع جسد الإنسان إلى منظومة من التسليع، ويتم اختزاله في بعد واحد، وهو أن ليس للجسد قيمة ما دام لم يكن منتجا ومستعبَدا في الآن ذاته.
ومع أزمة كورونا وما نشهده من تداعيات على الجسد والتحولات الكبرى التي طرأت بسببها، يمكننا القول إن الجسد بمدلوله الاجتماعي أصبح منهكا، وبدأ فعليا في التشظي بعد أن أصبح مجرد كتلة من اللحم والدم عالقة في رأس كل متصل بعوالم افتراضية لامكان له فيها، إننا بدأنا نفقد أجسادنا ونتحول إلى حزم من المعلومات، نعم لقد بدأ الدور الاجتماعي لأجسادنا في التلاشي، بدأ يفقد دلالاته وثقافته ووعيه وقيمه، وكل ما نسجته البشرية حوله لآلاف السنين ووقعته باسمه. ويدخل تدريجيا في عبودية رقمية يختلي فيها وحده بمعبوده، بل وتتشكل على أساسها هويته.
يمكننا أن نرى ذلك في كل ما يحيط بنا، لم يعد غريبا أن أخاطبك عبر هذا المقال الذي تقرأه الآن وأنا بمفردي وأنت كذلك، ننقاش ونتبادل الآراء بحماس عال أو بغيره، أفعل هذا وأنا أعرف أنني في حالة اتصال مع كائن آخر عبر وسيط هو الهاتف الذكي الذي يجعلني أنفصل عن الحيز المكاني لجسدي كما هو حالك أيها القارئ الكريم، لقد خلقت التكنولوجيا لدى الإنسان هوس الانفصال عن الآخر جسديا، فالتطور المذهل في تكنولوجيا الاتصال الذي حول العالم إلى قرية صغيرة، جعل التواصل الإنساني لا يتم إلا عبر وسائط خلخلت العلاقات الإنسانية المؤسسة على التواصل الجسدي والخبرة المباشرة، وكل ما نشأ حولها من ثقافة وقيم وممارسات.
صدر في أواخر سنة 2016 باللغة الفرنسية كتاب بعنوان “الإنسان العاري.. الديكتاتورية الخفية الرقمية” من تأليف” مارك دوغان”، و”كريستوف لابي” ترجمه سعيد بنكراد هذه السنة أي سنة 2020، عن المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، وهو يشرح مخاطر الثورة الرقمية على الإنسان، وكيف حولته إلى إنسان عار أو إنسان عبد للدكتاتورية الحديثة التي أصبحت تجسدها كبريات الشركات التي تتحكم في الصناعة الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية.
يخلص الكتاب إلى أن الثورة الرقمية ستفضي إلى تغيير شامل للإنسان، وستتغير حياته بالكامل، إذ سيفقد الناس الفضاء الذي كانوا يعشيون فيه كينونتهم المستقلة والتي تتغذى من عالم قيمهم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار وفي العواطف، لجهة صياغة جسد إنساني جديد مستهلك موجه عن بعد يتم التحكم في أذواقه واختياراته ونمط حياته، وفوق هذا وذاك، يوضع دائما تحت دائرة المراقبة الصارمة.
لا بد في الحقيقة أن نشعر بخيبة أمل تجاه ذلك الحشد الكبير من المفكرين والفلاسفة ورجال اللاهوت ممن وقفوا ضد الجسد أو انحازوا مع غرائزه وأنفقوا أعمارهم القصيرة في هذا الجدل، حيث أصبح الإنسان اليوم منفصلا عن ذلك كله في زمن العبودية الرقمية، لكننا مع كل هذا لا نفقد الأمل، فمثلما أنقذ “دوغلاس كوبلاند” أبطال روايته “عبيد مايكروسوفت” من أن يكونوا عبيدا لمايكروسوفت، ثمة مساحات أمل في المجتمعات لإعادة تشكيل الإنسانية بطريقة لا تكون خاضعة حد العبودية للتكنولوجيا أو للجسد نفسه أو متعالية عنه.. بل ستعمل على استعادة الجسد وإرجاعه إلى وضعه الطبيعي ليس بوصفه متحررا من كل القيود والضوابط الاجتماعية، أو لغرض تعزيز الانفجار الغريزي لديه، ولا برؤية تجعل الجسد في مرتبة أدنى وأدنس من مرتبة العقل والروح المتسامية، لكن بالعودة به إلى فطرته وأصل خلقته، تلك التي ستحرره من كل أنواع العبوديات المخلوقة، وتجعله يلتزم طواعيا بقوانين الضبط الإلهي التي ستنعكس إيجابا على تمثلاته وتمظهراته في الحياة بكل تشكلاتها.. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)}.
المصدر : https://tinghir.info/?p=49782