“هوت شمس الثقافة أرضا، حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة”، نستعير هذه المقولة للكاتب النمساوي كارل كراوس للدلالة على سيطرة التافهين وإحكامهم القبضة على العالم. ذات الفكرة دافع عنها، و باستماتة كبيرة آلن دونو الفيلسوف الكندي الشاب في كتابه “نظام التفاهة”، فالتافهون كثر من حولنا، يطلون من كل مكان، ويدخلون البيوت عنوة، وما باليد من حيلة لطردهم.
لقد وفرت وسائل الإعلام الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي لهؤلاء فرصة للظهور والانتشار، بعدما تطبع الناس تدريجيا مع هذا العبث، من خلال الدفع بنكرات ومجاهيل ومغمورين لم يكونوا شيئا إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية؛ نتيجة قيامهم بأعمال “عبثية” وأشياء “تافهة”. وعن هذا الوضع قال ذات مرة الروائي الأمريكي جورج سانتايانا “حب الشهرة أعلى درجات التفاهة“.
لا تنحصر صناعة التفاهة في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب؛ حتى إن ظلت مصدرها الأول بلا منازع، بل تتعداها إلى مسألة تسطيح الثقافة، وإلغاء القيم، والتباس المفاهيم… حينئذ تكثر الوجوه وتتعدد، لدرجة يختلط فيها الصالح بالطالح، فلا يُعرف أهل العلم عمن لبسوا ثوبه، وأصحاب الحق عن مدعيه.
إن التنظير الذي قدمه الرسام الأمريكي ” آندري وورهول ” الذي تنبأ بظهور وسيط إعلامي يصنع من حلم الشخص العادي واقعا ملموسا لم يتوقف عن كونه تنظير بل سرعان ما تحقق، فقد عبر هذا الأخير في إحدى مقابلاته بمقولته الشهيرة ” في المستقبل سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط…”
ورغم أنه في الستينيات من القرن الماضي لم تكن وسائل الإعلام واسعة الانتشار بما يحقق نبوءة “ووهول” غير وأنه بعد مرور عقود قليلة من الزمن، بدأت في التمظهر إلى الوجود بعض المواقع والتطبيقات التي تدخل ضمن قائمة وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي، والتي حملت على عاتقها مهمة تحقيق نبوءة ما نظر إليه الرسام الأمريكي.. فأصبحت المعلومة تنتشر وتكتسح العالم شمالا وجنوبا في اللازمن.
وحسب إحدى الأبحاث التي قام بها موقع “Mamsys”، فإن النتائج التي توصل لها خبراء الموقع تكشف حقيقة هذا الامر، ففي عام 2017 فقط، كان معدل الدخول على موقع فيسبوك نحو. (900.000) في الدقيقة الواحدة، مقابل (46.200) صورة يتم تنزيلها على إنستغرام، و(452.000) تغريدة على تويتر، ونحو (4 ملايين) مشاهدة على يوتيوب في الدقيقة ذاتها.
ويظهر ذلك بشكل واضح الدور الكبير والكبير جدا الذي تحققه وسائل الإعلام في صناعة الأحداث وانتاج المشاهير، فأصبحت بذلك وسائل التواصل الاجتماعي زاخرة بالكثير من الأسماء المشهورة على اختلافها ما بين الذي يقدم المحتوى العلمي المعرفي الجاد والناذر، والذي يتفنن في تقديم المحتوى الفارغ و التافه والمرضي أحيانا مثل تلك التي تنتشر داخل المجتمع المغربي، والتي تلقى إقبالا على نطاق واسع خاصة في المجتمعات المتخلفة، فتبرز لنا ظاهرة ” البوز ” buzz على مواقع التواصل كظاهرة تحتاج إلى التأمل والتساؤل ثم التقصي.
بداية “البوز” كلمة إنجليزية“buzz”تعني في اللغة “الطنين” وهو (صوت طيران الذباب ) واصطلاحا تعني تقنية في الماركوتينغ أو التسويق تتمثل في جعل الناس يتحدثون عن سلعة أو خدمة قبل القذف بها في السوق.
عموما؛ “البوز buzz” يعني عملية تواصلية جماهيرية مخطط لها أو تلقائية، يعتمد فيها على زعماء الرأي، أي الصحفيين و المدونين المؤثرين، ويكون البوز BUZZ محدودا في الزمن، وينتشر بسرعة كبيرة، ويزول وينسى بنفس السرعة.
من المؤكد أننا ننتمي إلى مجتمع موغل في التفاهة والرداءة، مؤكد أننا سائرون، من غير رجعة، نحو حافة الإفلاس الإنساني، فلا شيء يبعث على الاطمئنان في سياق تصير فيه الشهرة والنجومية من نصيب الأكثر تفاهة والأكثر فضائحية، ، فالكل يبحث عن الظهور وتسجيل الحضور في الواقع والافتراضي، وإن كانت الطريق إلى الهدف المنشود، مفتوحة على الفضيحة والخسارة واللا معنى، فما يهم هو عدد “اللايكات” والمشاهدات والتعليقات، أملا في حصاد الشهرة والخروج من سجل المجهولية إلى المعروفية، ولا يهم أن تكون الوسيلة دوسا على المشترك القيمي، أو عبثا بالحياة الخاصة، أو حتى انتهاكا للمحذور والمحظور، المهم أن تتحقق الشهرة ويصير صاحب “البوز” موضع حديث هنا و هناك.
أن تصير نجما في أزمنة الرداءة، اصبح أمرا لا يستوجب التوفر على كثير من الرسائل الاجتماعية، فليس مطلوبا منك أن تكون مثقفا، ولا أن تحوز شهادات عليا من أعرق الجامعات، ولا ان تكون بطلا رياضي .اصبح الامر يتطلب فقط ان تكون تافها و ان تقوم بأمر عبثي وغير مألوف .
تنتشر التفاهة حينما تعم الرداءة، تغلب التفاهة حينما تضعف الكفاءة بتعبيراتها المتنوعة، يتلقف الناس “البوز التافه” دون أدنى تحري أو تساؤل أو تمحيص فبالأحرى نقدا لما يطلعون عليه.. فهذه العملية تتطلب مجهودا وجدية واطلاعا واستدعاء للعقل.. بينما يبدو من الطريقة التي يتعامل معها الناس أن هناك كسل وتكاسل وعدم الرغبة في بذل أي مجهود، وهو ما يجعلنا نستشعر أن هناك رغبة جامحة في الخمول وفي إطالة وقت الراحة واللجوء إلى كل ما يطلق عنان الغرائز بدل فتح المجال للتفكير العقلاني الرصين.
ينتشر الميل إلى “البوز التافه” بالضبط حينما تغيب الثقافة والعطش الثقافي والاطلاع إلى امتلاك المعرفة وتعداد آليات تطويرها والسعي إلى توسيع دائرتها والانفتاح على الثقافات الواسعة التي أصبحت تسمح بها وسائل التكنولوجيا الحديثة…
ينتشر البوز حينما تغيب الرغبة في القراءة ويتم تعويضها بكمية قصيرة من المفردات وبوابل من الصور…
ينتشر الميل إلى “البوز التافه” حينما يغيب التعليم الجيد وتغيب معه أدوات التحليل والنقد والتعامل مع كل القضايا بالمسافة النقدية التي تتطلبها والتي تحتاج إلى روية وإلى رصانة وعدم التسرع في إطلاق الأحكام الجاهزة…
المسؤولية هي مسؤوليات، مسؤوليات مؤسسات والتي تأتي على رأسها المدرسة والجامعة وكل مؤسسات التنشئة والتعليم والتربية، يضاف إلى ذلك مسؤولية المؤسسات الإعلامية المتعددة والمتنوعة، دون أن نغفل مسؤولية كل الأشخاص الذين يشكلون رموزا، والذين من المفروض أن يعطوا المثال وأن ينتبهوا إلى كونهم نماذج يتطلع عموم الناس إلى الاقتداء بهم باعتبارهم قدوة. ما نعيشه اليوم من تفشي التفاهة، لا يمكن أن أفسره إلا بانعدام الذوق والوعي، وهي مسؤولية مشتركة ، و الاكيد أن الأسر تتحمل هي الأخرى مسؤولية تنشئة أبنائها والانتباه إلى تربيتهم والحرص على ضبط تعاملهم مع وسائل التكنولوجيا الحديثة ومع التلفزة ومع مختلف وسائل التواصل…
إذا كانت لـ”البوز” قواعده وتقنياته وخصائصه المتعارف عليها عالميا في عالم الدعاية والترويج لسلعة أو منتوج ما، فإن “البوز” على الطريقة المغربية، يشكل استثناء، كما العادة يدفعنا إلى التساؤل عن علاقة البوز بالشوهة.
“البوز” المغربي يرفع شعار الشوهة والفضائحية أكثر من كونه بوز له معايير محترمة. وبدون هذه “التيمات”، يستحيل أن يتحقق. إنها المعادلة الوحيدة التي تصيب الهدف وتفي بالغرض وتمكن من حصد أكبر عدد ممكن من “اللايكات” و”البارتاجات” وتحقيق الدخل والشهرة الواسعة والسهلة.
الكل منخرط في اللعبة. سياسيون وفنانون ورياضيون، وعامة. ومن كان خارجها، أصبح مهمشا ومتجاوزا.
على الرغم من ان الواقع الراهن لا يبشر بخير الا اننا سنبقى متفائلون، فالتافهون كسبوا جولة أو شوطا، لكنهم لم يحسموا المباراة بشكل نهائي، ما دامت بؤر الممانعة قائمة، والأصوات المنتقدة تنطق، والدعوات مستمرة للتصدي للتجربة ومقاومة الإغراء، وإعادة المعاني إلى الكلمات والاعتبار إلى المفاهيم، وفرض الربط بين التنظير والممارسة.
لا بديل إذن عن المقاومة، فـ “ما دمت تقاوم فإنك لم تنهزم”، كما يقول المثل. علينا أن نعيد الاعتبار إلى المفاهيم الكبرى، من أجل التصدي للغة الإدارة الفارغة التي تقودنا. علينا أن نحيي مفاهيم في طريقها إلى الأفول، مثل المواطنة والشعب والنزاع والجدال والحقوق والمصلحة العامة والخدمة العامة والقطاع العام والخير العام… وأن نعيد إحياء التلازم بين الفكر والعمل، فلا فصل بينهما.
يبدو أن صرخة دونو، في 2015 سنة تأليف الكتاب، بدأت تلقى صدى بعدما امتدت أفكاره في الغرب والشرق على حد سواء، فقد انتشرت في الآونة الأخيرة في عديد من الأماكن لافتات مكتوبا عليها “توقف عن جعل الناس الأغبياء مشهورين”، فالدفع بالتافهين إلى الواجهة والمقدمة، يعد جريمة في حق الناشئة.
المصدر : https://tinghir.info/?p=49430