ارتباط الامازيغ بالأرض ارتباط مقدس ووجداني، قوي ومتين. يتبين أساسا في استمرارية الشعب الامازيغي، استمرارية متجدرة وموغلة في التاريخ، في وطن عرف أكبر وأبشع أنواع الغزوات والاستعمار ومحاولات الإبادة والتصفية. لا نريد العودة إلى سرد كل فترات الهجوم والاحتلال التي تعرض لها وطن الامازيغ في شمال إفريقيا، منذ الأزل في حقب مختلفة إلى حد أن تاريخ هذا القطر الإفريقي، أضحى يدرَّس بأسماء الشعوب المستعمرة له، مثلا فترة الوندال والبيزنطيين والرومان وغيرهم… وأمست بذلك شمال إفريقيا هي المرتع للشعوب المحتلة وليس وطن يقطنه شعب أصيل.
“كابرييل كامب”، المؤرخ والانثروبولوجي الفرنسي الذي كرس حياته للبحث العلمي حول تاريخ شمال افريقيا، ركز بشكل أساسي على استمرارية الامازيغ وحاول توطينهم توطينا مجاليا، تاريخيا، اجتماعيا، وثقافيا. داخل بنية الزمن الطويل الذي أوصى به المؤرخ “فرناند بروديل”. ولا يمكن فهم تاريخ الامازيغ إلا في إطار هذا المدى الزمني الممتد، لأنه يسمح لنا بمعرفة البنيات والعمليات الكبرى للتثاقف التي عرفتها شمال إفريقيا على مر العصور.
أشار “كابرييل كامب” في دراسته لهذه الاستمرارية إلى مسألة جوهرية، فيها تناقض صريح، تتعلق باستمرارية الامازيغ في غياب دولة قوية مستقرة. وهو ما وقف عليه “ابن خلدون” حينما حدد عمر الدول بالمغرب بعمر الإنسان، وفتراته الثلاث. التشكل، الازدهار، الاندحار.
قد تختلف قراءات وتأويلات التاريخ حسب الخلفيات والتموقعات، ولكن المؤكد أن تاريخ الامازيغ لم تكتبه أياديهم ولا عقولهم، ومن سوء حظهم أن تاريخهم كتبه الآخر، أو كتب بعقلية الغير، كل ما وصلنا من متون ونصوص مصدرية منذ القدم كتب بلغة الشعوب الأخرى غير لغتهم، سواء تعلق الأمر بالفترة التي سبقت دخول الإسلام أو بعدها. قد تكون هنالك محاولات التأريخ الذاتي ولكن قليلة ومنسية وربما تعرضت للإتلاف. وفي قراءة سريعة لهذا التاريخ الممتد، ماذا نجد؟ نجد أن تاريخ ايمازغن هو تاريخ مقاومة بامتياز.
فقد جعلت حتمية الجغرافيا، أن يكتب تاريخ شمال افريقيا بمداد المقاومة والصراع من أجل الوجود. وبخلاصة شديدة الجغرافيا هي التي صنعت حتمية الصراع. استقرار الامازيغ في جنوب المتوسط جعلهم أمام المواجهة المباشرة والصريحة أمام أقوى الحضارات والأمم التي شهدها التاريخ. حضارات وامبراطوريات بنت عروشها ومجدها على الغزو والاحتلال. واستسمج للمرحوم “عبدالله ابراهيم”، عن هذه الاستعارة، فاستمرارية الامازيغ هي في اعتقادي “صمود وسط الاستعمار”.
المرحوم “صدقي علي ازايكو”، معتقل وشهيد إعادة كتابة تاريخ المغرب، والامازيغ بشكل عام، حين فكك منظومة التحالفات بين المجموعات الامازيغية في تأويلاته الممكنة، فطن لدورها الأساسي في الحفاظ على التوازان داخل المجتمع من اجل البقاء والاستمرارية. وهو تكتيك قديم جدا للحفاظ على المصالح المجالية.
كل أشكال المقاومة الامازيغية المسلحة منذ ألاف السنين إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وإلى المقاومة السلمية والحضارية والقانونية التي مازالت مستمرة إلى الآن في القبائل والجبال والشواطئ، كان هدفها الأساسي هو الدفاع عن الأرض. حين يفقد إيمازغن روح المقاومة بسبب تغيير موازين القوى يفقدون الأرض بتلقائية، ويبقى نموذج البرغواطيين خير دليل على هذه الخطاطة المشؤومة. كل انكسار يتلوه انصهار، وكل انصهار يتلوه تذويب. تذويب اللغة والثقافة. استحالة العودة. نفي الوجود. العدم.
المقاومة أشكال وأصناف، الامازيغ جربوها كلها، وأبدعوا فيها أشكال جديدة. يتنازلون عن السهول والمياه ويتقاسمون قساوة الثلوج في الأطلس، لسبب وحيد هو الاستمرارية في الوجود. قد يسأل طفل أمازيغي والده لماذا نحن نسكن الجبل وليس السهل؟ وقد لا يجد الوالد ما يشفي فضول الصغار، إلا بالصمت، ثم يقول مع نفسه فعلا لماذا سكن الأسلاف الجبل؟
هل تريدون الجواب ؟ بدوري سأصمت، وأكمل السير في السهل. وأقاوم الذوبان، والانصهار، وأجدد روح المقاومة في نفسي. لأنه لم يعد الجبل آمنا وملجئا للمقاومة والحماية، أصبح الجبل اليوم مسيجا وحُفظت ملكيته لغير ملاكه الحقيقيين لأول مرة في تاريخه. أكرر لأول مرة الجبل في ملكية الآخرين بسلطة القانون. نسكن في الجبل ولا نملكه، لدينا فقط حق المرور في طريق مسيج الجوانب للعبور إلى المدينة. المدينة التي نذوب فيها جميعا وتقتل لغتنا وثقافتنا ونمط عيشنا….
خلاصة القول، حين نفقد الأرض نفقد كل شيئ، اللغة، الثقافة ثم الهوية.
2965 استمرارية بالمقاومة الدائمة.
بوشطارت عبدالله
المصدر : https://tinghir.info/?p=4633