يعتبر كتاب ( ايت عطا الصحراء و تهدئة درعة العليا ) الصادرسنة 1936 لصاحبه جورج سبيلمان، من المراجع الاساسية التي لا يمكن لأي باحث او كاتب مهتم بتاريخ منطقة الجنوب الشرقي أن يتجاهلها. و هذا لا يرجع بالضرورة الى قيمته العلمية أو التاريخية، نظرا لطبيعة المؤلف و السياق الذي تم فيه تأليف الكتاب، فضلا عن الدوافع السياسية و العسكرية لخط سطوره . إنما الى انعدام مصادر أخرى يتم الاعتماد عليها في هذا الغرض .
و هذا لا ينفي عنه متعة القراءة، حيث يحتوي بين صفحاته على معلومات شيقة غطت جانبا من حياة ايت عطا الإجتماعية و الاقتصادية و كدا العسكرية. مما يجعل القارئ لا يتوقف عند حدود المعلومات التي يحتويها بن دفتيه. بل تثير فيه الفضول و تبعث فيه الرغبة في البحث و التنقيب و التساؤل أكثر عن كل ما يحيط بها ، و بذلك تكون المعلومة نقطة بداية و انطلاقة بدل ان تكون هي الغاية في حد ذاتها .
و من بين الامور التي قد تلفت الإنتباه في هذا المؤلف، ما أورده الكاتب أثناء حديثه في احدى فصوله عن بعض الطباع التي تميز الإنسان العطاوي إذ يقول في ما نسبه لكتاب ( les siècles obscurs du Maghreb) لمواطنه CF.Guautier، (…أن العطاوي الحقيقي يعتبر العمل في الأرض انحططا، و نادرا ما يحرثون أراضيهم بأيديهم، لان هذه المهمة الثانوية موكولة للخماسين ….و بالطبع يشترك آيت عطا مع كل الرحل – امازيغا كانوا اوعربا – في هذا الشعور المحتقر للفلاح، إذ يقول الرسول عن المحراث :” لا يدخل هذا-أي المحراث – بيت قوم إلا أدخله الله الذل”).
اذا تناولنا هذه الفقرة التي حدد فيها جورج سبيلمان و من بعده فيليكس غوتيي علاقة الانسان في الجنوب الشرقي بالأرض و مكانة الفلاحة بنوع من التحليل ، فسنخلص الى ما يمكن اعتباره التباسا وقع فيه الكاتب أو قصورا في الحصول على معلومات أدق .
فإما ان يكون كلامه استنتاجا شخصيا، مبني على نظرة سطحية عززها بنصف حديث نبوي مبتور، أو ان الامر فعلا كذلك مما يوحي بان الوعي بأمور الدين لم يكن في مستوى إدراك ايت عطا . ان الحديث جاء في سياق معين و أنه يتعارض تماما مع الكثير من الاحاديث الأخرى التي ترفع من قيمة الفلاحة و الحث على الزراعة، و التأكيد على ان افضل الأرزاق هي تلك التي تحصل للإنسان من عمل يده ، و منها على سبيل المثال لا الحصر، ما قاله النبي (ص) : ” إذا قامت الساعة و في يد احدكم فسيلة فليغرسها”. و جاء في حديث آخر ” فلا يغرس المسلم غرسا، فيأكل منه إنسان و لا دابة و لا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة“ .
يتضح إذا ان عامل الدين لم يكن الحاسم في مسألة النظرة الدونية للزراعة ، إن كان اصلا ما ذهب اليه الكاتب صحيح على أرض الواقع . و ربما عاين بشكل كبير التجمعات العطاوية التي كانت تعيش حياة الترحال و الرعي ، و أسقط حالتها على الجنوب الشرقي بأسره .
فالزراعة لعبت دورا رئيسيا في استقرار الإنسان بواحات الجنوب في كل من دادس ، إمكون ،و درعة ، لمئات السنين ، و لعل المثال الدادسي المعروف { orda ikrz akal n Dades khs izgarne n Dades} { لا يحرث أرض دادس إلا ثيران دادس}، يعكس مدى تجدر علاقة الانسان الوجدانية بأرضه في المنطقة.
و لعل القوانين العرفية الضاربة في التاريخ و المهتمة بتنظيم السقي بين مختلف التجمعات الواحية فيما يُعرف بنظام التناوب Tirime و السهر على احترامه و سن عقوبات زجرية لمن أخل به. مثال صارخ عل ذلك، و لا يمكن ان تصدر من مجتمع يجعل من الفلاحة امرا ثانويا و ينظر اليها بازدراء ، كما أن اعتماد الخماسين كما أشار في الاعمال الفلاحية يقتصر على العائلات التي تملك أراضي شاسعة و يتعذر عليها القيام بحرثها و العناية بها كاملة ، فتضطر لاعتماد خادم يساعدها مقابل أجر، أو منح أراضيها أو جانب منها لغيرهم لاستغلالها مقابل أخذ حصة متفق عليها مسبقا مِمَا تُدره تلك الأراضي من محاصيل و غلل.
إضافة الى أن ما أورده سبيلمان في فصل آخر من كتابه و هو يتحدث عن موارد المنطقة الاقتصادية يجعلك تعتقد انه يصف الجنة، إذ يقول (… تشكل الواحات مراكز فلاحية مزدهرة احيانا…فنشاهد تحت النخيل بساتين غنية و حقولا جميلة من الشعير أو القمح، وتضم البساتين أشجار مثمرة من كل الأنواع : اللوز و الخوخ و المشمش و البرقوق و التفاح و التين و والسفرجل و الرمان و بعض أشجار البرتقال و الليمون … و يزرع الشعير و القمح و الذرة البيضاء و الصفراء و الفول و العدس و الجلبانة مع الحناء و النيلة و العديد من الخضروات كالجزر و اللفت و البصل و الثوم و الكرنب و الشمندر و الباذنجان و الفلفل و القرع و البطيخ و الدلاح و الخيار و نادرا البطاطس…) فكيف لكل هذا الجمال الذي أسهب في وصفه أن يتحقق و نحن على عتبات صحراء قاحلة، لو لم يكن الحافز هو حب الأرض و خدمتها بإخلاص و حب و تفاني؟.
هذا فقط نموذج لما قد يصادف القارئ و هو يتنقل بين صفحات هذا الكتاب ، مما يفرض عليه تناوله بعقلية نقدية تسمح له بغربلة كل ما وقع عليه من معلومات و أحداث و مواقف ، واضعا نصب عينيه الهدف الرئيسي الذي دفع جورج سبيلمان إلى تخريج هذا المؤلف ، الذي كان بالدرجة الاولى بمثابة دراسة ميدانية، يسعى من خلالها التمهيد لزحف القوات الفرنسية إلى المنطقة. و من يدري فقد يكون هذا الزعم حول علاقة الانسان بأرضه يندرج في اطار فصله نفسيا و وجدانيا عن أهم العوامل التي تُلهم جميع شعوب العالم لمواجهة الأطماع الخارجية ، المتمثل في حب الأرض و التمسك بها و ربط كيانه بها….
المصدر : https://tinghir.info/?p=45655