إسهاما في مواجهة انتشار وباء كورونا المستجد، قررت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والبحث العلمي توقيف الدراسة حضوريا إلى إشعار آخر في كل المؤسسات التعليمية انطلاقا من يوم الإثنين 16 مارس 2020م، ومنذئذ انخرط السادة الأساتذة في تجربة “التعليم عن بعد”، وقد أثمر انخراطهم الجدي إلى غاية الأربعاء فاتح أبريل حوالي 2600 درسا مصورا على المستوى المركزي والجهوي والإقليمي، وهي دروس بُثَّتْ عبر القنوات التلفزيونية الوطنية “الثقافية والأمازيغية وقناة العيون”، تضاف إليها عشرات بل مئات الدروس التي بُثَّتْ وتُبَثُّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي “اليوتوب” و”الفيسبوك”، إضافة إلى الاستغلال المكثف لتقنية “الوتساب”… ولأن ظروف الحجر الصحي فرضت على كل أفراد الأسرة المكوث في البيوت طوال الوقت، فإني لا أبالغ إذ أقول إن بيوتنا تحولت منذ فرض هذا الحجر إلى “مقاهي أنترنيت” بامتياز.
والواقع أن هذا الانخراط الإيجابي في عالم “التعلم عن بعد” كفيل بتصحيح جملة من المغالطات التي أريد لها أن تمس سمعة المهنة، وتنتقص من كرامة رجل الميدان، كما أنه كفيل بإثبات حقائق عديدة، يتمثل أهمها في:
_يقظة الضمير المهني لدى رجال التعليم، واستعدادهم اللامتناهي للبذل وللتضحية بالغالي والنفيس خدمة لِفِلْذَاتِ الأكباد .
_استعدادهم الكبير لتجاوز كل العراقيل من أجل أداء الواجب الْمِهْنِي، وتفانيهم في أداء المهام المنوطة بهم، وهذا ما تجسد في اقتحامهم كل العقبات التقنية والنفسية من أجل تمثل هذه الاستمرارية البيداغوجية.
إلا أن ثمة مزالق عديدة رافقت تجربة التعليم عن بعد وجب التنبيه لها، تتمثل أساسا في ضرب كل مرتكزات بيداغوجيا الكفايات عُرض الحائط، مما يقودنا إلى طرح تساؤلات عريضة حول مصير هذه البيداغوجيا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس طويلا.
دعنا نستحضر معا مرتكزات بيداغوجيا الكفايات، ليتبين لنا كيف أن موجة التعليم الرقمي هذه تعمد إلى نسفها نسفا واحدا تلو الآخر:
_1 تجديد الاعتبار للمتعلم: يتحول المتعلم في ظل موجة “التعليم عن بعد” إلى متلق سلبي، لا حول له ولا قوة، يكتفي بالإنصات التام، وبالتلقي السَّاذَج لكل ما يلقن له، ويتم الاقتصار على الوصف الخارجي للنتيجة التي يجب أن ينتهي إليها المتعلم، دونما اكتراث بإبراز السيرورة الذهنية الباطنية التي تصاحب عملية التعلم.
_2 زحزحة المدرس عن مكانته: يعود المدرس ليتوسط الحلبة وحده، يصول في جنباتها ويجول، يملأ فضاء الحصة منذ مرحلة التمهيد إلى مرحلة التقويم الشمولي، وتختفي في ظل سيطرته تماما شخصية المتعلم وكل ما يرتبط به عمليات بيداغوجية “الوضعية المشكلة، الاستقراء، الاستنباط، التقويم التشخيصي، التقويم التكويني…”، ويعود المدرس إلى نزعته التحكمية السلطوية..
_3 الإفادة من التعلمات المدرسية ووصل المدرسة بالمحيط: الأستاذ في إطار “التعليم الرقمي” محاصر بضوابط صارمة، ومقيد بشروط تقنية دقيقة شبيهة إلى حد كبير بضوابط ومعايير تصوير الأفلام، يتحول الدرس في مجمله إلى مجرد “دور” من الأدوار يحفظه الممثل/الاستاذ عن ظهر قلب، ويخاطب به الكاميرا، فتضيع بذلك فرص التواصل الوجداني، وتضيع معاني إثارة المتعلمين والسعي للتذكير و الاستفادة من المكتسبات المعرفية السابقة، كما تغيب تماما فرص وصل المدرسة بالواقع المعيش بمختلف معطياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ونعود بذلك لتكريس واقع القطيعة التامة بين المدرسة بالمحيط.
_4اعتماد الطرائق الفعالة والنشيطة: في إطار هذا الحوار الأحادي الجانب، حيث يحضر المدرس فقط على الخشبة ويغيب المتعلمون، لا مجال لتوظيف الطرائق الفعالة والنشيطة “طريقة حل المشكلات، طريقة المشرع…”.
_5اعتبار الفروق بين المتعلمين: يتحول المتعلمون في ظل التعليم الرقمي إلى مجرد أرقام ورموز، يغيب تماما الجانب الوجداني والجانب السلوكي، وتغيب معرفة المدرس تلاميذه من حيث الفروقات الفردية بينهم، ومن حيث الخصوصيات النفسية، والميولات الوجدانية، والاهتمامات المعرفية “الذكاءات المتعددة” التي تميز كلا منهم… فينتج عن ذلك إنكار التفرد، وتنميط المتعلمين واعتبارهم كتلة رقمية واحدة وهو ما يتنافى كليا مع واقع الفروق الفردية التي تعد سمة مميزة لكل جماعة .
_6اعتماد منهاج المواد المتضافرة : يسعى كل مدرس _ في ظل الضغوط والقيود والضوابط التي تقيد حركاته وسكناته_ إلى التركيز ما أمكن على مادة تخصصه فقط، بل يُفْرَضُ عليه أن يركز على أهم محاور الدرس، وأن يتجاوز الكثير من التفاصيل والخصوصيات، وبذلك يتم التغييب التام لمنهاج المواد المتضافرة.
خلاصة القول، إن الدعوة إلى اعتماد “التعليم عن بعد” وإن كان يحقق إلى حد ما ما اصطلح على تسميته “الاستمرارية البيداغوجية” في ظل جائحة كورونا، فإنه يعتبر بحق نسفا كاملا لكل ما بشرت به وشيدته بيداغوجيا الكفايات، هذه البيداغوجيا التي قامت على أنقاض بيداغوجيا الأهداف ساعية لتجاوز نقائصها وعيوبها، ولتصحيح أخطائها، لذلك وجب التنبيه إلى أن الانسياق وراء بريق المصطلحات التكنولوجية البراقة “المنصة الإلكترونية، الميكروسوفت تيمز، الواتساب، الفيسبوك…” والانخراط في دروبها ومتاهاتها ومزالقها، يعتبر ارتكاسا خطيرا، وعودة بالتعليم إلى الخلف، ناهيك عما سينتج عنه من عواقب وخيمة تهدد السلامة النفسية والعقلية والجسدية لأجيال الأطفال والمراهقين، وهي أخطار طالما حذر منها علماء النفس وعلماء الاجتماع وخبراء التربية:
_خطورة الإصابة بمرض “الإدمان” على استعمال الهواتف الذكية والحواسيب.
_النفور من الكتب الورقية التي تبقى الأصل الذي لا مفر منها.
_النفور من توظيف الأقلام والدفاتر خاصة بالنسبة لتلاميذ التعليم الابتدائي الحديثي العهد بعالم الأقلام والدفاتر.
_الاكتئاب والشعور بالعزلة الشعورية وبالقطيعة مع الوسط الأسري والاجتماعي.
_الانعكاسات الجسدية الخطيرة “أمراض العيون، وأمراض العمود الفقري…”.
_إفراغ النشاط التربوي من روحه، وتجريده من عمقه الإنساني الوجداني والعاطفي، ومن بعده الاجتماعي.
المصدر : https://tinghir.info/?p=45591