نزعة تأليه العلم، أو في استغلال العلم لخدمة الأيديولوجيا

admin
اقلام حرة
admin14 أبريل 2020
نزعة تأليه العلم، أو في استغلال العلم لخدمة الأيديولوجيا
عبد الحكيم الصديقي

كان لـ “أجست كونت” دوره في ظهور نزعة تأليه العلم واعتماد المنهج العلمي التجريبي كأسلوب للتفكير، والقول بإلغاء التفكير الديني والميتافيزيقي بوصفه نمطا من التفكير الذي تم تجاوزه بحسب قانون المراحل الثلاث الذي طرحه “كونت”، وقد تبعه في التنظير لهذه الرؤية كثيرون أمثال “جيمس فتر”، و”جوليان هكسلي” في كتابه “الإنسان يقوم وحده”، فبعد تطور العلم حسب زعمهم لم يعد للناس حاجة لإقحام (الله) في تفسير ظواهر الطبيعة، وهو ما ذهب إليه أيضا “إرنست هيكل” صاحب كتاب “أحجية الكون”، والذي يرى استقلال الإنسان بالعلم عن الإيمان والإله.

ينقل لنا الجابري في كتابه “مدخل إلى فلسفة العلوم” كلاما لـ “وينتد” يصف هذه الرؤية بقوله: “في القرن السابع كان (الله) هو الذي يضع قوانين الطبيعة، أما في القرن الثالث عشر فلقد كانت هذه القوانين من صنع الطبيعة نفسها، أما في القرن التاسع عشر فإن قوانين الطبيعة يضعها العلماء أنفسهم”.(١).

ويبدو أن امتداد هذا الطرح المتهافت كان من بين الأسباب التي ساهمت في انتشار ظاهرة الإلحاد بوصفه أيديولوجيا تؤله العلم، أو نزعة تأليه العلم باعتباره القادر على الإجابة عن جميع أسئلتنا، والكشف عن ألغاز الوجود الطبيعي، ومن ثم الاعتقاد بأن العلم التجريبي يقود بالضرورة إلى الإلحاد، بل ويقف في صفه، ونعني بالإلحاد هنا إنكار وجود الله بوصفه خالق الوجود ومقنن قوانينه ومنزل الشرائع ..

وحتى من لم يقع في فخ الإلحاد مباشرة فقد يكون ضحية لإحدى أمهاته وأخواته وزيجاته، كالعلمانية التي تفصل بين الإله والعالم أو العلمانية الشاملة بتعبير عبد الوهاب المسيري، والربوبية التي تنفي تدخل الإله في تاريخ الإنسان عبر إرسال الرسل والأنبياء، والشكية التي تقول بنسبية الحقائق كلها وعدم وجود حقيقة مطلقة، واللاأدرية التي تقف متحيرة في الترجيح بين أدلة التمخالفين باعتبارها أدلة متكافئة.

وهناك صنف آخر، بسبب هذه النزعة وما تروجه في قنواتها وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، يشعر بالحرج عند التصريح باعتقاداته الدينية مخافة أن ينال حظه من الاستهزاء من قِبَل هؤلاء، وكم من واحد اشتكى إلي من ذلك، وهذا بسبب كثرة الإرادات والشبهات التي تَصْدُر عن دعاة هذه النزعة الغبية، وقد يجد الواحد من هؤلاء قلقا وخوفا جوانيا يتحول مع الزمن إلى اضطراب نفسي بسبب ما يجده من تناقض بين ما يعرفه من معرفة سطحية عن دينيه وما يطرحه هؤلاء، وهذا راجع لأسباب أهمها ضعف المعرفة الدينية عموما وعدم التعمق في القضايا العقدية والعقلية خصوصا، والتي تعتبر الأساس الذي يتم من خلاله دفع تلك المعارضات والشبهات وبيان فسادها ولاعقلانيتها وتهافت مخرجاتها وتناقض لوازمها، وفي الغالب يلجأ هؤلاء إلى بعض القراءات التحريفية الحديثة للنص الديني قصد الخروج من هذا القلق والخوف والاضطراب.

وبعض المتهورين يتخذون هذه النزعة موضة يتعلقون بها للظهور والانتشاء بالاختلاف والسباحة بلا أدوات ضد التيار .. ولا يزيد دورهم عن نشر التفاهة وتسويقها بكل حماسة، فهم متلبسون بما سماه الدكتور إدريس الكنبوري بـ”علم الجهل”، وهؤلاء هم المتصدرون اليوم في السوشيال ميديا، وهم أنفسهم من أحدثوا هذه الفزاعة حول الدكتور محمد الفايد، فلا أرضا علمية قطعوا ولا ظهرا دينيا أبقوا، ولا فلسفة من داخل مجالهم التداولي أنشؤوا، ولذلك لن تجد لأحدهم مناقشة علمية رصينة وهادئة لما يطرحه الفايد، كل جهودهم لا يتجاوز منطق السخرية وتوظيف الساركازم، وهنا تظهر جليا خلفيات هؤلاء، فالأيديولوجيا هي الحاضرة بقوة، أما مقولة الدفاع عن العلم فهي وسيلة فقط للانتصار للأيديولوجيا.

ورغم ظهور فساد الربط بين العلم والإلحاد .. وكساد مقولة أن العلم يقود إلى الإلحاد، لأسباب سنذكرها، إلا أنها الأساس الذي ينطلق منه الملاحدة للدفاع عن توجهاتهم، وفي نفس الوقت يتناقضون معه ويهدمونه بأيديهم، فالدفاع عن هذه المقولة لا يتم عبر مبدأ التجريب والملاحظة .. أي أن مقولة (العلم يقود إلى الإلحاد) ليست قضية علمية أساسا، بل يتم الدفاع عنها عبر الجدل والنقاشات العقلية والفلسفية التي تعتمد على مبادئ منطقية ميتافيزيقية وقضايا غير علمية، كمبدأ الاستدلال ومبدأ السببية ومبدأ عدم التناقض …وغيرها، وهذا تناقض صارخ يضرب الأيديولوجية الإلحادية في مقتل، وحتى العلم التجريبي نفسه لا يستقل في بنائه المنهجي عن هذه الأسس والمرتكزات، وهي مبادئ فطرية أولية مركوزه في الإنسان ابتداءً، وهي غير خاضعة للتجربة والملاحظة.

فمبدأ السببية مثلا هو من القوانين الأساسية للبحثِ العلمي، فهو من المبادئ التي يعتمد عليها العلم التجريبي في كشف الحقائق العلمية. ولولاه ما كان بالإمكان الكشف عن ظواهر الطبيعة وقوانينها، فهو مبدأ وإن كان لا ينتمي إلى القضايا العلمية التجريبية، إلا أنه ظروري لها، ولذلك يرى الفيلسوف “كارل بوبر” أن ما يميز مبدأ السببية عن القضايا العلمية، هو أنه لا يقبل التكذيب والدحض خلافا للقضايا العلمية، كما أنه يعد أساس هذه القضايا، ويرى “برتراند رسل” أن فرضية وجود قوانين ثابتة للسببية تبدو غير قابلة للنقض وتعطي أساسا للدليل على وجود الأشياء الخارجية بافتراض أنها هي التي تسبب إحساساتنا الصورية لهذه الأشياء.(٢).

ملخص الكلام أن العلم ومنهجه ومبادئه ومرتكزاته لا علاقة له بالإلحاد وإنكار وجود الله، ولا بتلك الأيديولوجيات المنبثقة عنه، بل على العكس تماما، ولذلك يستنتج “هاغ غاتش- Hugh Gauch” أن “الإصرار على أن العلم يؤيد الإلحاد قد يحصل على درجات عالية من الحماس، ولكن درجات متدنية للمنطق”. كلام “غاتش” معقول جدا لأن منهج التفكير الذي يعتمد على الملاحظة لا يمكن أن ينكر ما لا يمكن ملاحظته. ولكن بالمقابل، ما يمكن للعلم فعله هو الإشارة إلى براهين يمكن أن يستخدمها الشخص في الاستدلال على وجود الخالق.(٣).

لقد صدق الفيلسوف علي عزت بيجوفيتش حين قال إن: “الإنسان لا يسلك في حياته كابن للطبيعة، بل كمغترب عنها، شعوره الأساسي هو الخوف، إلا أنه ليس خوفا بيولوجيا كذلك الذي يستشعره الحيوان، إنما هو خوف روحي كوني بدائي موصول بأسرار الوجود الإنساني وألغازه، وقد أطلق عليه “مارتن هيدجر” “العامل الخالد الأزلي المحدِّد للوجود الإنساني”. إنه خوف ممتزج بحب الاستطلاع والإعجاب والدهشة والنفور، تلك المشاعر المختلطة التي تكمن، على الأرجح، في أعماق ثقافتنا وفنوننا كلها”.(٤).

عبد الحكيم الصديقي
________________________
(١)- انظر كتاب “العلم ليس إلها”، للأستاذ محمد أمين خُلال. ص ٥٣ وما بعدها.
(٢)- انظر مقالي “هل لله علاقة بفيروس كورونا؟ الجزء ٢”، على هذا الرابط: https://m.facebook.com/story.phpstory_fbid=1408881402617171&id=100004859737857
(٣)- الحقيقة الإلهية، الله والإسلام وسراب الإلحاد، حمزة أندرياس تزورتزس، ص ٢٩٤.
(٤)- الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص ٧٧.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.