يدرك المرء، مهما كانت بداهته أن إثارة قضيـة حساسـة كنزاع الصحراء داخل الأوسـاط الإعلاميـة الموريتانية، يحمـل أكثـر من تحد قد يعصـف بصاحبه، مهما علا شأنه وأشتد عوده..! إذ أن الهزيمة التي ألحقتها قوات صحراوية بالعقيدة القتالية للجيش الموريتاني تبقـى مؤلمة.
إن أسوأ ما في الحرب هو محدوديـة الخيارات، فإما “أن ننهي الحرب أو أن الحرب ستنهينا”، ونحن، فـي هذا المقام نميـل إلى القول بأن حرب الصحراء قـد أماتت في النخبة الوطنية الرغبـة في تقديم الحصـاد لمـن فاته الزارع، وهـو تقليـد سنـه زعماء المؤسسة العسكرية، إثـر إطاحتهم بأول نظام مـدني يوم الـ10 من يوليو 1978.
داخليا، اقتصـرت الأهداف الحقيقية للزمـرة العسكريـة على حفظ ماء الوجه، بما يتفق مع بقاء الكيان الموريتاني فمنه يستمدون وجودهـم، وخارجيا، حسمت اتفاقيـة الجزائر الموقعة فـي الخامس من أغسطس 1978 مسألة استمرار “حرب الوحدة”، ومـن ثمة نفـي أي شرعية سبق وأن جرب نظام الرئيس الراحل المخطار ولد داده، الإتكاء عليها إبان دخـول موريتانيا أخطر الحروب في حياتها المعاصرة و أشرسها علـى أمنها الإقليمي على الإطـلاق، فبسبب الخسائر المادية والبشرية ومستويات الإنفاق على الحرب جرى استنـزاف الاقتصاد الموريتانـي، بعدما وجه أزيد مـن 25% من الميزانية السنوية لدولة في طور التأسيس إلى الأعتدة والأعمال الحربية.
أنهكت الحرب الجانب الموريتاني، قبل أن تترك خلفها مشاكل سياسيـة واقتصادية كانت السبب المباشـر فـي تبرير عملية التلاعب بالموريتانيين طيـلة الـ40 عاما الفائتة، وإلـى جانب توقيع اتفاقيـة السـلام بين موريتانيا والبوليساريو دون الرجوع إلى الشعب الذي لم يستشر أصلا في إندلاعها، الأمر الذي أدى إلـى ازدياد النفور من الديمقراطية التعددية، كما أوضح مظاهر الاستتباع الحكومي للجزائر والرباط والاستكانـة الشعبية أمام أطـراف الصـراع..، ومن مظاهر ذلكـ تعمـد الزمـرة العسكرية التفريط في مصالح موريتانيا الإستـراتيجية، خاصـة في مسألة رسـم الحدود.
وفضلا عـن الإيجابية المتحصلة من إنهاء الحرب وتسليم الصحراء لأهلها، فإن خيبـة الأمـل دفعت حكام أنواكشوط إلى الإبقاء على إرث من الصمت المطبق إزاء تلك الحقبة التاريخية ووقائعها،.. شهـداؤها وروايات الناجين من المعارك الطاحنة، يطال ذلك كبار الضباط في المؤسسة العسكرية،.. ولا يمكن أن يستثنى من ذلك التوصيف كثير من رجال الفكر والثقافة ممـن حتمت عليهم الظروف السياسية ابتلاع مواقفهم إزاء طبيعة الصراع وجوهره، كما ساعد الإعلام فـي تشويه الروايات أو مصادرة الصور الحقيقية للوقائع، وانتهاج التلفيـق أو التزوير أو التشويه، طريقا لردم حقبة تجرع فيها رفاق السلاح سم العلقم.
إن الواقع الآن يبدو بعيداً عن تلك الصورة، فعلاقـة، الأطراف الأساسية بموريتانيا لا تخفيها العين البصيرة و لا تتجاوزها الأقلام الراصـدة لأحوال وأيام النزاع، فالإعلام الإقليمي يتبارى في تغييب مساهمة الموريتانيين في ظهور المعضلة الصحراويـة والدور المأمول من حكوماتها في إنهاء الملف الصحراوي، والبعض من هؤلاء ينظـر إلى موريتانيا بعين نصف مغمضـة وينعت نخبها بما لا يليــق،.. والنخبـة الموريتانية، في هذه الحالة ينطبق عليها المثل الشعبـي القائـل “ألاَ لَحَمْ الرًقْبَة مَوْكُولْ أو مَذْمُومْ”، فبفضـل سذاجـة اليمين الموريتاني، أوكد المغرب إرتباطاته التاريخية بالإمارات والقبائل الموريتانية، وقبل الملك محمد الخامس لعرائض حزب الاستقلال، المنادية بوحدة ما أسماه الراحل علال الفاسـي؛ بالمغرب التاريخي و”المغرب الكبير” الذي ينسحب على كافة الأراضي الممتدة إلى حوض نهر السنغال، بما فـي ذلك موريتانيا والصحراء الإسبانية،.. وبفضل طلائع اليـسار السياسـي ممثـلا في خلايا الكادحيـن تم تأطير وتعليـم سكان مخيمات تندوف، و نشـر التضامن مع البوليساريو داخل الأوساط الشبابية الموريتانية..، كما ساهمت قبائل موريتانية معروفـة في الإمدادات التي أطرت لحرب التحرير الجزائرية، حتـى أن إحدى القبائل الموريتانية تتحدث عن إيواء الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة، في مضارب العشيرة إبان إندلاع حرب التحرير الجزائرية، وصحيح كذلك أن حلـم الرئيس الراحل المخطار ولد داداه القاضيـة بقيام “دولة البيظان” شكلت إنتكاسة للحياة الديمقراطية إلى يوم الدين هذا.
واليـوم، أيضا يظهـر التضايق من “الحياد” على الطريقة الموريتانيـة، وتتزايـد الأيادي الممدودة إلى موريتانيا للمساعدة والمساندة في ملف غسلنا منه أيادينا ولا نفكـر في الأفق المنظور معاودة غزل صوفـه، وبتنا نتطلع إلى طرح موريتاني حازم، من شأنه أن يُضفي على الشرعية السياسية للصراع زخما قويا، ويدعـم الأطراف المباشرة في الحـل.
لقد فرضت التحولات التي أعقبت اتفاقية الجزائر، أيا كانت ظروفها وملابساتها، وبغض النظر عن السياق والأخطار التي رافقت عودة المقاتلين الموريتانيين من الأراضي الصحراوية، بإرادتهم أو بغيرها، فرضت تلك العوامل الخروج النهائي لموريتانيا من النزاع على حيازة “الإقليم الصحراوي”، ومنذ تلك اللحظة، أخذ حكام انواكشوط الجدد يخططون للبقاء على كراسيهم أطول مدة، وتحالفوا في غفلة من المواطنين العاديين مع شيـوخ القبائل، وكانوا يغضبون ويثورون، أمام دعوات التعددية الديمقراطية كما يبشر بها الفاعلون السياسيون.. ويتوعدون ويهددون كل منافس معتبر، وأحاطوا أنفسهم بأجندة بديلة وأولويات مغايـرة للحرب، وكأن لسان حالهم يكرر “تظل الأشياء على حالها وتستقر الأمور لحكامها”، وانقضت التجاذبات الإقليمية حول “النزاع النائم” وفـق توصيفات الكثيرين ومن بينهم الدكتور حسين مجدوبي؛ في معالجاته الأخيرة، والدولـة الموريتانية إما غائبة أو مغيبـة، فـي الحالة الراهنة تسير السلطة بواسطة الجيل الثانـي من طبقة الضباط، فهـل يقدر هؤلاء على الاضطلاع بدور ما حيال التقريب بين الأطراف؟
من يؤثر على من؟
ندرك جميعا، حجم المخاطر المترتبة على حالة الارتياب والشكـوك بسبب نزاع الصحراء والعلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر، فمن أهم تجليات هذا “النزاع النائم”، طموحات الزعامـة الإقليمية المحتدم بين البلدين، والخوف الدائم الذي يعتري ساكنـة الإقليم الصحراوي من إطالة أمد النزاع الذي تجاوز الـ40 عاما، كما أن تقارير وكالات الأنباء تتحدث الإجهاد الكبير الذي أصاب النازحين الصحراويين إلى الجزائر، مما جعـل ألسنة هؤلاء تنصاع إلى القـول : “إننا لن نعود حتى تضع الحرب أوزارها هناك”.. فبسبب خسارة الأرض، وشـح المؤن والأغذيـة وشعـور المقاتلين بالإحباط من حالة اللاسلم واللاحرب، فإن الزائـر لمخيمات تندوف يلحظ لا محـالة حالة الاندفاع التـي تعتري الشبان من بين هؤلاء من أجل ما أسموه تحقيـق الانجاز الميداني، فهل هـم انتحاريون جدد أم رجال ساموراي على الطريقـة الصحراوية؟وهل تستحق أرض يباب قاحلة ومنبسطة كل هذا الاهتمام؟
إن الذي يطالع الخارطة، ويضـع الإصبع على المنطقة كما اتفـق على تسميتها بالصحراء الغربية سيدرك على الفور الأهمية البالغـة لهذا الموضـع الجغرافـي، فهو يحتل واسطة العقد بين ثلاث دول رئيسية في منطقة المغرب الكبير، كما تصب شواطئه الغنية على ساحل يتجاوز 1400 كلم، والذي يسيطر عليـه سيبسط سيطرته على منطقة استراتيجية مليئة بالمصائد البحرية والثروات المعدنيـة والنفطية الهائلة والمتنوعـة.
لربما لم تعـر موريتانيا كل هـذه الخيرات اهتماما كبيرا، وهـو ما أبانت عنـه في الاعتراف بالجمهورية الصحراوية طبقا لبنود اتفاقية الجزائر، والظاهـر أن أنواكشوط لم تقطف ثمار انسحابها من تلك الثروات التي تركتها خلف ظهرها، كما لـم يترتب على اعترافها بالسيادة الصحراوية على الإقليم تبادل للسفراء بين البلدين أو تطويـر للعلاقات الديبلوماسية، بيـن “الرابوني” والعاصمة أنواكشوط، وما بيـن الجهتين ضيعت مصالح عديدة وفـرط إلى حد كبير في مصالح اجتماعية وقبلية معتبرة. ومـع تغير الأنظمة واختلاف الحساب على البيـدر، حافظت الأخيرة على النظرة الاستراتيجية حيال هذا الإقليم فهـو علـى الأكثـر يشكل بالنسبة لها–دون إفصاح عن ذلك – شريطا عازلا دون المملكة المغربية.
حملت اتفاقية الجزائر، محاولات جديدة لاستعادة دفـء العلاقـة بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية والجمهورية الإسلامية الموريتانية، وعــودة الروابط بينهما إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب وتميزت الاتفاقية بالتحالف والتنسيق بين الرئيس المؤقت رابح بيطاط، والمقـدم محمد خونه ولدهيدالـة، بعـدما تخلـى الأخير عـن أي مطالب سياسية أو تاريخية لنظامه في إقليـم وادي الذهب، ولم يكن هذا التحول سهلا على راسمي القرار في الرباط، التي ظلت تكرر يوميا مقولـة ان انواكشـوط سقطت في الفخ الجزائري وبأن النشطاء في حركة البوليساريو باتوا يتحركون ضـد مصالح المغرب انطلاقا من الأراضـي الموريتانية، وكـان الواقـع السياسي والخلفية القبلية لحاكم موريتانيا تشيـران إلـى شيء من ذلك.
في صفحات التجربة الصحراوية ثمة كثير من الدروس والدلالات المتقاربـة، ولاسيما انسحاب السلطات الاسبانية من الصحراء بعد الاتفاق الثلاثي لتقسيم الإقليم بين موريتانيا والمغرب، في الـ14 نوفمبر 1975، والذي بموجبه تسلم قائد المسيـرة الخضراء، الملك الراحل الحسن الثاني إقليم الساقية الحمراء، ومـع اختلاف في المراحل الزمنية والسياق الجيوبوليتيكيء وقفت أيضا الأمم المتحدة، تتفرج علـى دخول القوات المغربية إقليم وادي الذهب الذي كان تابعا لموريتانيا حتـى 14 أغسطس 1979، وبنفس الطريقـة والأسلوب لم يشأ طرف ثالث التدخل في مسـار استعادة المغرب لـ”أطرافه الجنوبية”، ولا في النهج السياسي الذي اتبعته موريتانيا، خلال انسحابها من وادي الذهب، سـوى الجزائـر التي احتضنت الدولة الصحراوية وأعلنت موقفها الحازم إلى جانب البوليساريو.
لم تجري الرياح في الصحراء الغربية كما تشتهـي جبهة البوليساريو، التـي أعلنت فـي 26 فبراير1976 الإعلان من جانب واحد عن قيام الجمهورية الصحراوية الشعبية الديمقراطية، متخـذة مـن الكناش الإسباني لقبائل الاقليم، وقانون “الجنسيـة الصحراوية” الصادر عن الحكومة الاستعمارية في العام 1974، مرجعيـة وحجة لوجودها السياسـي.
فـي الـ14 أكتوبر 1975 طالبت الجمعية العامـة للأمم المتحدة بإجراء استفتاء تقرير المصير استنادا إلى الكناش الإسبانـي، الـذي أقرت بموجبه القوة الاستعمارية الاسبانية حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، ولا زالت لجنة تصفية الاستعمار تضـع الصحراء الغربيـة ضمن الأقاليـم المتطلعـة إلـى تقرير المصيـر، كما لا يجد بعض الأطراف غضاضـة في اعتبار اسبانيا طرفا ثالثا مباشرا في النزاع متخذين من الموقف الضمنـي للأمم المتحدة التـي تترك خانـة الدولـة الاستعمارية لإقليم “الصحراء الغربية” خالية!..
وهنا يندرج رهان الطرف الصحراوي على المـوقف المستجد على الحكومة الاسبانية، ففي ينايـر الجاري ستتسلم إسبانيا مقعدها غير الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فـي سنـة يأمل مجمل الأطراف أن يشهد الملف فيها منعطفا تاريخيا بحكم التوتر القائم حاليا، فالأمم المتحدة تهدد برفع الملف إلى مجلس الأمن خلال أبريل القادم، مع احتمال إدراجه في البند السابع، وهـو ما سيعقد الوضع ويفتح الباب أمام اقتراحات بديلة.
غير أنه في جميع مراحل الصراع، ظلت إسبانيا تتخذ موقفا متسامحا تجاه المغرب، كما عمل الأخير على تقوية صلاته الديبلوماسية مع مادريـد، وعموما سجلت لإسبانيا مواقف ايجابية إلى جانب المغرب، وإن بقـي البلدان يشتركان في العديد من الملفات النائمة كمنطقتي “سبتة” و”مليلة” المحتلتين، بالإضافـة إلى المواقف الشعبوية لحزب اليسار الموحد الموالي للبوليساريو وغيره من التشكيلات السياسية الإسبانية، إن التساؤل الوارد في هذه الحالـة يرتبط بالتذبذب الرسمي الإسباني والنفاق الشعبـي في الملف الصحراوي.
منذ وقف إطلاق النار سنة 1991 أشرفت المينورسو علـى العديد من المفاوضات “العسيرة”، ومن أبرز نجاحات هـذه البعثـة التوقيع على اتفاقيـات هيـوستن (1997) التـي أبرمتها المملكـة المغربية وجبهة البوليساريو بواسطـة كاتب الدولة الامريكي الأسبـق جيمس بيكر، تضمنت الاتفاقية ترتيبات وآليات تنفيذ خطة التسوية بما فـي ذلك تجميد نشاط القوات العسكرية، والاتفاق على سلطة الأمم المتحدة خلال الفترة الانتقالية، ومنذ إذن جرت مياه كثيرة في ظل تطورات ميدانية متسارعة، كان آخرها المضامين اللافتة للتقارير الصادرة مؤخرا عن المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة السيـد كريستوفر روس؛ والتي تطرقت لوضعية الجمود في المساعـي الدولية القاضية بتسوية الملف، وانعـدام الإستجابات الكبرى على صعيد المقترحات المقدمة للنقاش، وهـو ما يعـني فشـل بعثة المينورسو في مهمـة التقريب بيـن الأطراف، فبعد 23 سنة من التواجد بالصحراء الغربية أصبحت البعثة محل انتقاد مجمل الأطراف،.. تظهـر ذلك تقارير المبعوثين الأممين المعنيين بهذا الملف، وهـي تقارير تنتقد “الجمود” الموريتاني إزاء الملف الصحراوي، وعدم حصول “الحماس” كقناعة في التعاطـي مع المبعوث الأممي بحيث أبقت أنواكشوط على رمزية مراسيم الاستقبال والتوديع وما رافق ذلك من لقاأت بروتكولية..، أما المغرب من جانبه فقد لجأ إلى تعليق تواصله الإيجابي مع مبعوثي الأمين العام للأمم المتحدة في انتظار تطور جديد يحتم إيفاد مبعوث أممي بديل عن السيد روس، ..ومن جانبها تبقي البوليساريو على موقفها القاضـي بالدعوة إلى إجراء استفتاء تقرير المصير بصفتـه أنجع وسيلـة للتعبير عـن تقرير المصيـر.
لا تجد جبهـة البوليساريو غضاضـة في وصف نفسها بحركـة المقاومة الساعيـة إلى تصفية الاستعمار ونيل الاستقلال عـن “المحتـل المغربي” الذي تفاوضت معه بشكل غير رسمـي في ويستشيستر، بضواحـي نيويورك، وفـي مانهاست، بشـكل رسمـي، فيما بعـد، في حين تؤكد المغرب أن الصحراء الغربية هي جزء من أراضيها وتحشـر جبهة البوليساريو في زاوية التمرد على الوطن الأم، وبأن قادتها المدعومين من قبل الجزائر استطاعوا تأسيس “دولتهم الوهمية” على الورق، والحقيقة التـي لا مراء فيها أن تلك المفاوضات قد رمت بحجر في أسـن ملف وشكلت نقلة نوعية حيث جعلت من جبهة البوليساريو شريكا للمغرب في الصراع وفي إنهائه. ثم إن الظاهـرة الأبرز في حرب التوصيفات و الإتهامات هذه تكمن في طبيعة الغموض وسرابية الرؤية التي باتت تخلط وبشكل متعمد بين النضال التحرري والأعمال الإرهابية، وذلك بالتزامـن مع تبلور مفهـوم “الحرب علـى الإرهاب”.
الاهتمام والتواصل الموريتاني مع الملف الصحراوي
على الرغـم من المشاكـل التي تعرضت لها موريتانيا منذ استقلالها سنة 1960 استأثرت مشكلة الصحراء الغربية باهتمام حكامها، كما شارك أعيان القبائل الصحراوية في مؤتمر ألاك 1958، وما فتئ الرئيس الراحل المخطار ولد داداه يؤكد على التقاليد المشتركـة والأصول القبلية الموحدة بالإضافة إلى الروابط العرقية واللسانية، بيـن السكان، كما لم يتوانى عن المطالبة بضـم جزء من هـذا الإقليم إلى الوطـن الأم إن لم يكن كله.
مكنت اتفاقية مادريد، لأول رئيس موريتانـي مـن إقليـم وادي الذهب، لكنها كانت بمثابـة الشرارة التي جرت موريتانيا للدخول في حرب عصابات مع جبهـة البوليساريو، ودون أن يتهيأ البلد إلى دفع الأعباء الناجمة عن خوض غمار حرب استعادة “الولاية الثالثة عشرة”، وهكـذا وصلت المخصصات المالية للحرب إلى حدود 60% من الميزانية العامة للجمهورية سنـة 1978، كما تكبد الجيش الموريتاني، الخسائر تلو الأخرى وأضرت ضربات العصابات الصحراوية كثيرا بالاقتصاد المنجمي وبخطط التنمية، وفي هذا السياق يشـاع أن مؤسس الجبهـة، الراحل الولي مصطفى السيد استطـاع التسلل إلى انواكشوط خلال مرحلة التحضير لعملية العاصمة حيث اختبأ لدى أصدقاء له من الموريتانييـن، ما عجـل بالانقلاب على رئيس وصف، فيما بعد بلقب “أب الأمة الموريتانية”.
في بعض الأحيان ينـم أبسـط الأسئلة عن أثقل الخسائر، ولاسيما إذا تعلـق الأمـر بالمعاركـ الكثيـرة التي خاضتها موريتانيا في نهاية السبعينات من القرن الماضي من اجل استعادة إقليم “الصحراء الغربية”، وهي حقبة، بالرغـم من أنه بالكاد تعرف تفاصيل وافية عن أتون معاركها أو أعداد ضحاياها غير المعروفين، وأبطالها المنسييـن، وقـد يكون مرد ذلك إلى التدخـل الفرنسـي الحاسم في عملية “خروف البحر” والتي حسبها قادة الجيش الموريتانـي، مخلصهم من فكاك حرب العصابات، ونظـرت إليها القوى السياسية عطفا فرنسيا أنقـذ البلاد من الانهيار.
إنه لأمر صعب حين تخسـر إخوتك وتبدأ الدوران في فلك أبناء عمومتك، ثم تخسـر الإثنان معا !.وهنا نتوقف على تذكير كثير من الشباب الصحراوي الميــال إلى عقليـة “الطرف الأضعف” في الصراع، التي سيطرت ردحا من الزمـن على الذهنية الصحراوية، بعامـة.. إن هذا الإحساس لن يكون أقل تدميرا مـن الحرب التي خاضها النظام العسكري في موريتانيا ضـد الشعب الصحراوي، ومـن الواضـح، بالنظر إلى المصطلحات الجيوءسياسية أن نظـرية “القصور الموريتاني” الشائعـة داخل الأوساط الصحراوية، ليست سوى خليـط جاهـز من لعبـة قديمة وحالـة إحماء حـديثة، يمر بها مـن لا يعرف الإجابة علـى أسئلة بدائية مثـل: “مـن نحن؟ وما حدودنا ؟ ومن يمتلك أشجار الطلح تلك؟..ونحـن مطالبون بتقديم الجواب قبل العوم في فيضان عـام جديـد.
وتقع على الساسة الموريتانيين مسؤولية توجيه الباخرة إلـى بر الأمان، باعتبارهم قادرون على تشكيل عنصر توازن في السياسات المحلية والاقليمية دون محاباة، ومنـع تداعيات منحنيات الصراع التي ستميل لتقديـرات أباطرة الحرب، فهـل يقدر هؤلاء على الهمس في أصدقائهم في الدول الأخرى، بأن المنطقـة ليست في حاجة للحرب، وبأن قليلا من الديبلوماسية البديلة يكفـي لحسـم “النزاع النائم”.؟
رغـم غياب كشف الحساب، فإن موريتانيا منـذ العام 1975 ظلت محور استقطاب سياسي ما بيـن المغرب والجزائر، وقد إنعكس ذلك ايجابيا على تبنـي الأطراف السياسية المحلية و الإقليمية لميزة الإنصات أكثر لجموع المصطفين خلفه، حتى صـار الأنموذج النواكشوطي عنصر استقطاب تعمل الرباط والجزائر، كل من جانبه على استمالته لتأثيث موقعه مـن الصراع الاستراتيجي على النفوذ في شمال إفريقيا بعامـة وحول إقليم الصحراء الغربية بصفة خاصة، كما وينظر كل بلـد بقلق بالـغ إلى أي تقارب بين منافسـه التقليدي وموريتانيا… إن إرادتنا، كموريتانيين ومهارتنا ومواردنا وجوهـر صبرنا، في أكثره ضاع في كراريس المحاور التي ترتبط بالجزائر تارة أو بالرباط تارة أخرى، مما يفرض على الحكومة الموريتانية، بلورة مساهمة جدية وتملك عناصر النجاح حين تقنع الأطراف، وهم قادرون على تقديم تصور، فليس في الكون من هو أدرك للمشكل الصحراوي من الموريتانيين، أو أقرب إلى استشعار المصالح الشمولية للمنطقة من الطبقة السياسية والحزبية الموريتانية، وسيكون، بناء على كل ذلك من اللائق بأولئك الداعون إلـى مراجعة الدروس المستفادة من التجربة الموريتانية، تقديـر السعـر الـذي قد يضطر لدفعـه البلد، في حالة ما إذا وصل النزاع إلى حدود بوابتنا الشمالية، حيث مناجـم المعادن التـي تعول الدولة الموريتانية علـى نسبة مساهمتها في الدخل القومي الاجمالي بما يقدر بـ40%.
لقد كان لافتا فـي التصريحات الأخيرة لزعيم البوليساريو، محمد عبد العزيز في بلدة أغوينيت، تذكير الرجل بالأواصر الاجتماعية والثقافية التي تربط الصحراويون بموريتانيا، مع الإصرار على تأكيـده بأن “الصحراء الغربية” لـم تكن، في يوم من الأيام جزأ من محيط نفوذ المغرب التاريخي، وبأن أي إنهيار لهدنة 1991 لـن تكون موريتانيا بمنأى عن تداعياته، وكـان كمـن يتساءل : “هل سألنا أحدهم عما إذا كنا نرغب في أن نكون جزأ من أشيائه الكبرى؟”، وعلى الرغم من أن الإستراتيجية الصحراوية واضحـة بالنسبة لمختلف الأطراف، فإنها كشفت عن أن مأزق أنواكشوط لا يرتبط بمصير تطورات الأوضاع على حدودها الشمالية، وإنما يتعلق بما يمكن أن يحدث في موريتانيا ذاتها، وذلك بسبب ردة فعل التنظيمات الضاغطة والداعمة لجبهة البوليساريو، وتحول المدن المحاذية للشريط الحدودي مع أراضي الجبهة إلى مناطق مأهولة بالصحراويين، فضلا عن الدور المأمول من الحاضنات الشعبية التي أشرف على تنظيمها السفير المغربي في موريتانيا، وهذه لا تزال هشـة وغير مترابطة كوحدة دعم للخيارات المغربية، فهل تعي أنواكشـوط أن مهمة كسب الوقت في تعاملها مع الطرفان، ستشكل بالنسبة لها مأزقا كبيرا في حالة اندلاع أي حرب قادمة؟
عبيد ولد إميجن
المصدر : https://tinghir.info/?p=4189