تغزو عناوين الاعتداءات المرتبطة بالمدرسة صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخباريةِ، دوماً؛ فلا غرابةَ أن نقرأ تدبيجات إخبارية بعنوان، مثل: «تعنيف تلميذة، واتهام أستاذ»، أو «اعتقال الأستاذ المتهم بتعنيف الطفلة»، مع حرصهم على ذكر اسمها، أو «المديرية الإقليمية تنفي اعتداء أستاذ على تلميذة»، مع تسمية المديرية المقترنة بالحادثة.
نطالعُ محتوى المقالات الإخبارية في الموضوع، ونشاهد محتويات الفيدوهات المسجِّلة لتصريحات المتضررة، أو المتضرر من الأطفال، أو شهادات زملائهم في المدرسة، أو عائلاتهم وأهاليهم، أو المتهم(ة)، أو المسؤولين عن القطاع التعليمي، وغيرهم. وقد نتابع مقاطع “الميكروطوارات” مع آخرين، كجيرانهم، أو أصدقائهم، أو من لا تربطهم أدنى علاقة بالموضوع أيضاً.
وعندما أقرأ هذا، أو أشاهدُ ذاك، وأقرأ تعاليق المتابعين للموضوع من الرّأي العام عليه، تراودني الكثير من الملاحظات، وأغيب في عديد من التحليلات. أرى الاتهامات تُوَزَّعُ بدون دليل، وأتخيَّلُ صورة المدرِّسِ تُبنى في أذهان الأجيال، وتبدو لي المدرسةُ تُهدَمُ لبنةً لبنةً. لا أستطيع إخفاء صورةِ الانحطاط الذي بلغناه. ومضاتُ نورٍ قليلةٌ تتشبثُ بالاحتفاظ بقليل من الأمل.
ولعلني مطالبٌ بتوضيح ما كتبتُ.
إننا نقرأُ، ونشاهدُ اتهام الأستاذ دوماً بالعنف، ووضعَه في قفص المتهم، حتى تثبتَ براءَتُه، نقيض أولى قواعد القانون التي ترى أن كل شخصٍ برئٌ حتى تثبُتَ إدانتُه، فلا أشاهدُ، ولو واحداً، متحدثاً من أهالي الطفل المتضرر يتساءَل: «هل الأستاذُ فعلاً اعتدى على ابننا؟ ألا يمكن أن يكون ابننا كاذباً؟ أهو ملاكٌ؟ أيجب أن نصدقَ روايتَه، دون تحقيق وبحث؟ عندما أدلي بشهادتي لوسائل الإعلام، أتهم فيها الأستاذ، قبل أن يحكم القضاءُ، ألن أكون بذلك رافضاً للسان العدالة، واستقلاليته، وغير معترفٍ به، ولا بأحكامه؟».
قد يرد علي قائلٌ: «وهل ترى القضاء في المغرب أهلاً للثقةِ؟».
ستختلف الردود، وسطول النقاشُ، لكننا -لا محالة- سنتفقُ على رغبتنا في امتلاك قضاء عادلٍ، يُنصِفَ أكثر مما يظلم، وإن لم يكن عادلاً ومستقلاً بشكل مثالي، لأن ذلك شبه مستحيلٍ. وما دمنا نتفق في هذه الرغبة، فينبغي أن نتشبث بمبادئ العدالة، وهي عدم الحكم على الآخر قبل معرفته، ومعرفة الصورة الكاملةِ.
إن العنفَ يملأ حياتنا، بدءاً من الأسرة، ومروراً بالشارع، ووصولاً إلى المدرسةِ، ويسير بيننا وهذه الفضاءاتِ الثلاثِ عنفُ الإعلامِ، وهو أخطرُها، وأكثر تأثيراً؛ فيحقُّ لي أن أتخيل قصة ذاك الطفل الذي اعتدى عليه أحدٌ ما، فأرويها كما تخيلتُها.
«الساعةُ تشيرُ إلى شروق الشمس بنصف ساعةٍ، من يوم الاثنين. الجو صحوٌ وباردٌ هذا اليومَ. استيقظ عليٌّ على صراخ أمه، تناديه ليفطر، وإلا أشبعته عصا. قام هلِعاً، وارتدى “جاكيطه” المتسخَ والمرقَّعَ، وحذاءَه الرياضيَّ البالي. جلس على الأرض، ليتناول إفطاره على طاولة خشبيةٍ صغيرة، ملتصقة بالأرضِ. موضوعٌ عليها إبريق شايٍ يشبه السنافر بلونه الأزرقِ، المحروق في أسفلِه بالوجع، وإلى جانبه إناء حديدي متلئ بزيتِ تفوح منها رائحة الجوع. ملأ علي بطنَه بالخبز والزيت والشاي، وخرج مسرعاً لكي يلتحق بمدرسته التي تبعد عنه بنصف ساعةٍ، يمشيها على قدميْه.
لم ينجز واجباته المدرسيةِ. لكن أستاذه نشأ في ظروف مماثلة، لذلك لا يكون عقابه له، ولغيره، سوى كثير من الحب والعطف. يحفزهم ليتعلموا، ويغيروا واقعهم، ولو تغييراً يسيراً.
تخرَّج الأستاذ امحند، واختار الاشتغال في التعليم تلبية لنداء شغفِه. أحبَّ القسمَ، ومشاغبات التلاميذ، ورائحة الطباشير، وعَظَمة السبورة التي تحمَّلت الكثير من العلوم، وسخرت ظهرها لتُنقَش عليها حروفها. لا يسعى سوى لتكريس حب العلم والمعرفة لدى هؤلاء الأطفال، لأنه ملَّ من ارتفاع نسب الهدر المدرسي في المناطق النائية والقروية.
خرج التلاميذ من تلك الحصص الدراسية، في ذلك اليوم الأكتوبريِّ. وبينما علي في طريق عودته لمنزله، شب بينه وأحد الأطفال نزاعٌ، تحصَّل منه على لكمتيْن قويتيْن في عينيه. فخاف من أمه الحقيقةَ، فأخبرها أن الأستاذ “سلخَه”».
تخيلتُ كيف تحولت القصة إلى «اعتقال الأستاذ الذي اعتدى على الطفل علي»، وأصبحت «آباءٌ آخرون يخرجون من صمتهم، ويعلنون تعرض أولادهم لعنف الأستاذ امحند». غابت الكثير من التفاصيلِ. كثرت الفراغات، وبدأت الروايات تملأها بما تشاء. والباحثون عن “البوز” والشهرة يقتاتون من ذلك كلِّه.
لا أبرئ الأساتذة من إمكانية ممارسة العنف، كما لا أتهمهم؛ فالعنف واحد من أخص خصائص الإنسان، فكلنا عنيفون، ولكن تختلف أشكال عنفنا، ودرجاته.
لا أبرئ الأساتذة من إمكانية ممارسة العنف، كما لا أتهمهم؛ فالعنف من أكثر المواضيع إزعاجاً للفلسفة عبر التاريخ، وما يزال.
لا أبرئ الأساتذة من إمكانية ممارسة العنف، كما لا أتهمهم؛ فالأستاذ إنسان، وكل إنسانٍ له مُنزلقاته، وله ما يُشكَر عليه، لكنني أرى أنه يجب ألا يُنصِّبَ أحد نفسَه قاضياً، فزمن الفوضى ينبغي أن ينتهي.
(الموضوع حديث عام، ولا علاقة له بحادثة تارودانت. وكل تطابق في العناوين والأسماء، فليس سوى صدفة)
المصدر : https://tinghir.info/?p=40546