عادات الاستمطار بدادس :عروس المطر ” تلاغنجا ” مقاربة تحليلية
لحسن الفسكاوي-مراكش
ماء الواد هبة واحة دادس، يسقط المطر فتنفجر العيون سيولا ويجري واد دادس رقراقا وتنشط الحياة الزراعية وتُرسل قطعان الغنم الى البراري المخضبة بالعشب الناعم، وعندما تقل التساقطات او تنعدم تستحيل الواحة الى شحوب طبيعي وعاطفي ويجف الواد من شريانه و السواقي التي تخترق المجال الواحي من حياتها والآبار في نضوب مستمر، تكسد سوق الماشية ويرتفع ثمن الاعلاف والبيادر غبراء تستغيث، وفسائل الورد تشكو ذبول عروقها، وأشجار التين تنذر بموسم عقيم، أما الحقول المطروزة فقد هجرتها السواعد و المعاول، إذاك تُرفع أكف الدعاء بالمساجد: يخرج الرجال بجلابيب مقلوبة لتأدية صلاة الاستسقاء طالبين الله نجد الواحة الجافة بالغيث وسقي العباد و البهائم ونشر رحمته وإحياء البلد الميت، وفي طقس آخر مواز تتأهب النساء الواحيات كخلية واحدة يستمطرن بطقس متوارث ينشطن عادة تلاغنجا الضاربة في القدم بأشكال من الموروث الرمزي يجمع بين إعداد الطعام و تشكيل دمية عروس المطر و السير في موكب الاستسقاء
1- تلاغنجا و الطقوس المصاحبة :
جفاف الواحة يعكر صفو اهل دادس فتتغير طبائعهم ويقل نشاطهم وتتوارى افراحهم وتتهدد لحمتهم، فتتدخل النساء كفاعلات اجتماعيات لاعداد الخبز المدفون في الجمر المحشو بالشحم و البصل و التوابل و الموضوع على حصيات الواد كإشارة رمزية لقيمة هذا المجرى في حياة الواحة ثم يُحمل الخبز يوزع في البيادر كسرات للاطفال و الرجال وبعد ذلك يشرعن في طهي الكسكس وتُرسل قصعات منه الى المسجد لتجسيد قيم التلاحم و الوحدة و تغذية حس الانتماء ليتفرغن بعد ذلك لتهيئ تلاغنجا .
2- تلاغنجا أو عروس المطر: موكب الاستسقاء :
بعد تناول الكسكس تشرع الواحيات في تشكيل تلاغنجا: مغرفةٔ خشبية طويلة متقاطعة مع قصبة على هيئة صليب تتعامد معها لتصوير بنية الجسد رأسه و أطرافه العليا و جزؤه الاسفل، فيقمن بإلباس دميتهن الاستمطارية لباس العروس فيرفعنها إلى السماء وهن يرددن لازمة شعرية بأداء جماعي .
3- اللازمة الاستمطارية: احتفال بزفاف عروس المطر
تقول اللازمة : “أ تلاغنجا نُمّن س ربي، دٌ إزْگان إيفك أنزار” / “يا عروس المطر، نؤمن بالله الدائم الواهب المطر “
“أ تلاغنجا مكيوين، ودٌاغ ايگان إسمنْ نونزار ” /”يا عروس المطر: من هو زوجك ؟ _ إنه ذاك الذي يُدعى المطر “
يشير السطر الاول الى عقيدة التوحيد لدرء مفسدة الاستعانة بغير الله في الاستسقاء فالله وحده هو المغيث القادر على جعل السماء مدرارا و السحب امطارا، اما السطر الثاني فجاء على تركيب استفهامي غايته الاخبار بزف عروس المطر الى زوجها .
4- تلاغنحا: مقاربة لسنية / تداولية:
كلمة تلغنجا : اسم مركب تركيبا مزجيا بين كلمتين اثنتين: تل: فعل أمر بمعنى غطٌ يحيل الى مجال اللباس بابعاده الثقافية و الحضارية و الدينية ويحمل دعوة صريحة للقيام بفعل التغطية و التكسية وفعل الكلام “تل” صادر عن آمر رمزي ثقافي عرفي اسطوري جمعي يقتضي وجود مأمور وسياق تداولي وهدف يتوخى تحصيله ، فعل طلب التغطية يلازمه على مستوى التركيب المزجي اسم ثان هو “أغنجا” المطلوب تغطيته وتحويله دلالته من دلالة مألوفة إلى أخرى رمزية، و من معنى مباشر الى معان ثانوية مستلزمة حبلى بالدلالات، الكلمة المزجية الثانية لفظ امازيغي يعني المغرفة الكبيرة او العظيمة في مقابل تغنجات المؤنثة التي تفيد التصغير، واغنجا يرد في الاستعمال الثقافي كاسلوب قدحي توصف به الفتاة العانس الطويلة النحيفة البشعة التي تفتقد إلى أسباب الأنوثة و الاثارة، اذن من خلال جمع المعنيين و لم دلالتهما و استحضار السياق التداولي وهو الجفاف بمعانيه الطبيعية و البشرية وهو شحوب الطبيعة و الانسان كليهما واصفرار اديم الارض بفعل انعدام التساقطات واصفرار وتجعد اديم المرأة الجميلة التي هي انعكاس لجمال الطبيعة، وهكذا نستطيع القبض على المعني لغويا و تداوليا والكشف عن مستور فعل الكلام الذي يتوخى تكسية المطلوب تغطيته بنقله من مستوى البشاعة و العنوسة الى مستوى الخصوبة و العطاء.
5- تلاغنجا :مقاربة سميوانتروبولوجية
طقس تلاغنحا الاستسقائي طقس نسوي خالص تؤثثه جموع من النساء، اذن فالنساء ينبرين لهذا الأسلوب الاسطوري استجابة لامر ثقافي مفاده أن المرأة تشبه الارض في عطائها في وهجها و في جمالها، فالامطار وهطولها تكسي الارض جمالا و خضرة و غلالا فتزدان بما طاب و لذ، فالمغرفة الكبيرة العارية الجافة الشاحبة التي تهيأ على شكل صليب يوحي بالاثر المسيحي في الثقافة الأمازيغية الموشاة بلباس العروس يتم رفعها إلى السماء في موكب نسائي مصحوب بأداء جماعي يضفي عليها القداسة في نيتها الاستسقائية وبعدها الرمزي و الثقافي داخل تركيب ثقافي دال يؤمن بالتقابل الدلالي بين السماء الماطرة و الأرض الخصبة و بين المغرفة العروس وزوجها المطر .
المصدر : https://tinghir.info/?p=39526