حرفا الواو و العين : الفصل 3
عثمان عوي
جمع الإمام قواه ليفتح الحوار عن الزواج و طقوسه، حمد الله و أثنى عليه فتدخل الأب ليطالبه بالتريث ، مسح الشيخ على لحيته و ضرب أنفه ضربات فعلم أن طعام الجلسة شواء، أقام جلسته وأدار الشاي بين البراد و الكؤوس و استعاذ بالله تم عاود التلاوة…
كانت الفرصة المنتظرة من “الشابة ” لتعود الى تفكيرها العميق …
تذكرت يوم لبست جميل الثياب و رمت بعض البخور على جمر هادئ موضوع بين ساقيها ليصعد الدخان المهيج بين ثنايا الجسم و الهندام ، أحست بنشوة عظيمة و طاقة زائدة، حملت المنجل و ثوبا أسودا على كثفها و خرجت كالفراشة، قصدت ذلك الحقل المنبسط المنظر فلا أشجار و لا تلال ، وصلت الى عين المكان فحامت حول الحقل دون أن تبدأ العمل ، لا يهمها كثرة ما ستحمله عشاء للبقرة فزوجة أخيها هي من ستحاسب على ذلك وسيأتي الدور عليها كذلك بعد القران.
لم تشرع بعد في الحصاد بل وزعت نظرها على كل الحقول المجاورة و بدأت تعد و تحلل، تلك أعرف من ذاك الشاب الجالس أمامها وهي تقطع العشب كالآلة لتبرز له قوتها و قدرتها على تأمين مِؤونة القطيع، و تلك الجالسة وبدون اشتغال، انها الجارة التي وافقت على الزواج و بارك الأهل و الأحباب، تجلس أمام شريكها المستقبلي يتحدثان عن العرس و الأسرة و السفر و الرجوع و إمكانية الهجرة سويا، كل شيء يوضع على الميزان أما الجهد و العمل فقد اقتنع العريس بكل شيء، على الشمال أخرى وحيدة منهمكة في عملها، عرفتها “تودة ” بالحقل فهي متزوجة و ليس امامها الا الكد و العناء، جلسات وورشات عمل في كل جنبات الحقول، ألوان زاهية متنوعة تزيد الجمال جمالا، نغمات الموسيقى و ضحكات البراءة و الود و الوئام تكسر الصمت وتجلب الانتباه .
لم تشرع “تودة” في العمل فالمحفز لم يظهر بعد، لكن من حين لأخر تتظاهر بقطع جذور صغيرة لتعود الى الاستكشاف ، لم يدم ذلك طويلا حتى وصل اليها شاب جميل المنظر و غريب الحركات فأدخلت رأسها بين العشب و المنجل يتطاير كانه جان، سلم الشاب ولم تجب ” تودة ” كأنها لم تسمع ولم تر شيء، كرر التحية ورفعت رأسها مبتسمة و قال تبا لك أخفتني ، أجاب الشاب وهل أنا وحش لأخيفك أيتها الجميلة ، قطع الشاب عودا صغيرا متظاهرا بتنقية أسنانه لكن هي طريقة إخفاء خفقان القلب و تلعتم الكلام أمام بنت تكتشف لأول مرة ، فبذلك تظن أن تغيير نبرة الكلام راجع للعود وليس للتوتر والضغوط النفسية.
ليتني كنت أنا ذلك المنجل في قبضة يدك…
ليتني كنت ذلك العشب وأنا أمزق أشلاء بين يديك…
ليتني كنت تلك البقرة التي ستطعم من يديك الكريمتين …
اسألي أبوك ألم يكن في حاجة الى راعي غنم أو فلاح للحقول او حافر بئر
ليتني أخدمكم ولا أبالي، لن أمل ولن أعير أي اهتمام لأقوال البشر
أنا لك فماذا تقولين…
كلمات وأقوال وجمل تخرج من فم الشاب الشاعر بلا تفكير …
ضحكت ” تودة ” وأخذت فترة راحة لتحاور الشاب:
وهل أنت مستعد للزواج؟
ماذا عن أهلك: أمك، أبوك …
هل تزوجت أختك لتفكر أنت في الزواج؟ وقد كان السؤال وجيها لما لتأثير وجود العازبات في المنزل على زواج الذكور، فالباب لا يفتح الا بخروجهن، كيف لا وقد يدفع الامر بعض الشباب الى اعتماد زواج ” أعطني أختك أعطيك أختي “.
جمع الشاب قواه وقال: لا عليك فالأمر قد حسم، طلبت الزواج السنة الماضية فرفض وكانت ردة الفعل أن تركت القطيع وغادرت البلدة، رفض مني الزواج فقبلت الامر على مضض، كتمت الحرقة و واصلت عملي أرعى نهارا وأسقي الحقول ليلا كأن شيء لم يقع، أسوق قطيعي بين الجبال وأحاور نفسي وأفكر في كل المكائد، لا أريد أن أغرس جرحا في قلب أبي فأترك القطيع للذئاب انتقاما، ولا أريد أن تعيش أمي على البكاء فأنتحر….
رجعت ذات يوم وقد ظهر الشبع على القطيع، وفرح أبي بالأمر؟ أين كنت اليوم؟ أين رعيت؟ أين وجدت الشياه هذا الكلأ الوافر؟ ألم تصل الى المراعي الممنوعة ” أكدال”؟
كيف أرعى في الممنوع وقد حذرتني مرارا، أخذت منعطفا لم يعتده الرعاة فوجدت الكلأ – لم أنس انني كذبت وقد تجاوزت الحدود و أكلت شياهي العشب الحرام –
أكرمنا الله يا أبي وقد وجدت هذا المكان، غدا سأكثر الزاد و سأبيت ليلتين في المرعى وسأكرم هذا القطيع، كان ذلك بالفعل و أقد أخذت ما يكفيني لأيام ، بعدت عن الأنظار وودعت القطيع وسرت اتجاه الغرب و كلي حسرة و انكسار ، علمت أن الأمر صعب لكن لا شيء أصعب من رفض الزواج، قطعت الجبال ونمت في العراء، نفذ الزاد قبل أن أصل الى ” أغبالة ” وقد مررت بقمم الجبال متحاشيا دواوير أيت حديدوا حتى لا أعرف و أرجع بالقوة مرغما .
صدقيني لا أريد أن اعلمك بتفاصيل القصة فكلها مأساة، كنت أرعى عند أسرة ب ” تاولي” أقوم بكل الأشغال، أخدم الرجال والنساء، أجلب الماء وأحطب الخشب، ازيل الثلج على السطوح، أوقد المدفئة وأنام وسط الأغنام، أضع رأسي على الوسادة وأرى أمي أمامي، وأي وسادة؟ إنها سرج الحمار، أرى أمي وهي تسمع عتاب الأب القاسي يلومها على تربيتي، كل اعوجاج في الأبناء من الأم و لا مجال للدفاع أو التفسير، ستقبل كل شيء من أجلي ، أسائل نفسي هل رجع القطيع الى المنزل سالما؟ هل وصلت الأخبار من الرعاة وخرجت أمي للبحث حافية الأقدام؟
أخرج للمرعى وعيناي على القمم منتظرا مجيء أبي ليبحث عني، علمت أنه سيأتي فهو في حاجة الى خدماتي…
لاحظت ” تودة ” أن الشمس تميل للمغيب وقد وصلت زوجة أخيها للتو بحمل ثقيل ، قاسمت العشب معها و أعدت كل واحدة حملا متوازنا و انصرفت ، ساعد الشاب ” تودة ” لوضع الحمولة على ظهرها و سارا بخطى متساوية نحو بيتها وهو يسرد قصة الحياة.
وصلا الى باب المنزل وودعته بكوب لبن بارد أطفأ به عطشه وقد عاودت سؤال السلهام …
يتبع
المصدر : https://tinghir.info/?p=39224