حرفا الواو و العين : الفصل 2
عثمان عوي
وصلت” تودة ” الى مقرها الجديد، بيت من الطين بغرف متناثرة وابواب خشبية غير محكمة الاغلاق، كلها قابلة للولوج الا واحدة، تلك الغرفة العجيبة التي يهابها الصغير والكبير، غرفة لا يمتلك مفاتيحها الا الجدة العجوز، تحكم تعليق المفتاح الحديدي المشط في حزامها المنسوج بخيوط الصوف المزركشة بكل الألوان، تستغل كل فرصة لتردد ضعف سمعها عندما تطلب منها المؤونة ، تجعل نفسها بدون اذنين و هي تستقبل الطلب لعل الطالب ينصرف في حاله، وكلما ألح صاحب الحاجة و اقترب منها ضربت على الأرض بعصاها و قالت كف عن النباح قد سمعتك لكن ركبتاي تؤلمني و لا أستطيع الوقوف، فيؤجل الطلب مع العلم أن المفتاح لا يفك من الحزام و لا يسلم لاحد.
لم يكن هذا الامر غريبا على الضيفة الجديدة فقد اعتادت ذلك في بيت ابيها اذ كل ما تجود به الأرض والشياه والابقار يلج المخزن وتتولى الجدة صرفه بإتقان، تعلم المقتصدة ان ذلك ميزانية السنة فتراها تصرف القمح والشعير كأنها تعلم عدد الحبات وتوقعات السنة المقبلة. رحم الله جدات قضين نحبهن وأطال في عمر المقتصدات اللواتي دبرن ويدبرن الندرة حفاظا للكرامة ودرء للديون.
دفع الفضول البنت الصغيرة فزارت كل الغرف، تدخل وتكتشف المكان على عجل أو ترسل بصرها بين شقوق ما يسمى بالباب الخشبي فتنصرف، اندهشت وهي تجد ثيابها على عود خشبي معلق الى السقف بحبلين، بل زاد استغرابها وقد اختلطت بثياب ذكورية، اثار انتباهها جانب من الغرفة مفروش بزربية زاهية الألوان ووسادتان من الصوف، أخذها المنظر فألقت بجسدها النحيف ككرة الثلج على البساط لم يوقظها الا صوت أمها وهي تبحث عنها في كل مكان، قفزت الحسناء واستجابت لامها… أين غبت أيتها الغبية وأبوك مع الإمام في شرفة الشاي، أعيدي غسل وجهك والتحقي بهما … انها مرحلة ” الكلام ” – هذه الكلمة مترجمة من ” أوال ” وتعني قراءة الفاتحة و اعلان الزواج، هكذا يوصف ما يقوله إمام الدوار بين العروسين فسمي بالكلام لعدم فهم المعنى – .
أرسلت البنت يديها الصغيرتين في اناء طيني و غسلت وجهها مرات عديدة و استقلت الدرج الى شرفة الشاي، دخلت الشرفة وبها إمام المسجد و الأب و شاب غريب الاطوار ، تسللت بهدوء و سلمت على الجالسين و أخذت مكانها قرب ركبة الأب كأنها تريد أن تضع عليها رأسها وتنام. أقام الأب جلستها و أمر الإمام بصب الشاي.
بدأت ” تودة ” باكتشاف جنبات الشرفة ثم لحية الامام ليظهر لها وجه الشاب وقد حمل الى ذهنها الكثير ، من هذا الشاب، أين رأيته ؟ و متى التقيته ؟ هذا الوجه ليس غريبا لكن …
بسلم الامام و أخذ يتلو كلاما موزونا لم تفهمه الضيفة ولم تعر له أي اهتمام خصوصا وأنه من شخص تكرهه و تتحاشى رؤية لحيته ، كيف لا وهو منبوذ عند شباب القرية ذكورا واناثا، كيف لا و الوافد عليهم هو من حرمهم فسحاتهم المسائية وهم يرجعون من متاعب الحقول و جبال المراعي فتجمعهم هنيهة الضحك و المرح ، يرددون الاشعار و يعزفون على آلات موسيقية صنعتها أياديهم بلا ملل ، يتبادلون اطراف الحديث ، يرقصون و يمرحون ثم ينصرف الجميع لوجبة العشاء و الاستعداد ليوم عمل جديد .
همست لنفسها: كرهت هذا المخلوق الذي حرم كل شيء رغم انني رأيته يصافح النساء و يبتسم إليهن في جنبات الطريق كما انني أسمع أطراف حديث النساء يذكرنه في مقامات لا أريد ذكرها. هذا الموقف دفع البنت لتراجع ذاكرتها وتتعرف على الشاب. أه، انه هو… تذكرت يوم جلوسه أمامها في الحقل وهي تحصد البرسيم، إنه الواحد من بين المائة، قبل أيام كنا نجلس ولا حرج، نتحدث و لا شكوك، يرانا الصغير و الكبير و لا ظن سوء، هكذا كنا وكان اجدادنا فتغير كل شيء.
تذكرت يوم صارحها الشاب بعزمه على الزواج، سألته عن السلهام، و ما السلهام ؟ و لِما السلهام؟
سكت الامام و استيقظت ” تودة ” من سباتها العميق …
يتبع …
المصدر : https://tinghir.info/?p=38762