الكتابة والنشر والصحافة والدعوة والسياسة والإعلام وغيرها أشياء ينبغي أن تكون جريئة أو لا تكون.صحيح أنها تكون من مرجعيات ولها أهداف ومقاصد غالبا ما تحدد وسائلها ودرجة جرأتها ونوع حكمتها التي تأخذ بعين الاعتبار ليس الواقع المضطرب فحسب بل أيضا مناخ الاشتغال ومدى تشجيعه على الحرية والمسؤولية والانفتاح والمبادرة والتعايش وقبول الآخر أو عكس ذلك؟.الواقع أجرأ من الجرأة وأحوج من الحاجة ولا ينفع فيه إلا رؤية الأشياء كما هي وقول الحقائق كما هي،وهذا قد لا يقلق الناس ويغضبهم ويستعديهم عليك، بل بالعكس الذي سيضر الناس هو الكذب والتزوير وتبرير ما لا يبرر وقلب الحقائق وتغليفها في غير ثوبها…،هو التحامل المكشوف والتركيز على النقائص والسلبيات بدل التوازن المنطقي والاعتدال في الخطاب والممارسة:فثلاثة من كن فيه كن عليه: “الكذب في الحديث والخيانة عند الأمانة والفجور عند الخصام”؟؟؟.
وهناك إشكال آخر وهو أن كل المنابر الإعلامية مثلا تصدر صفحتها الأولى بشعار:”ما ينشر في المنبر يعبر عن رأي صاحبه ولا يتحمل المنبر أية مسؤولية اتجاهه”،يعني أن أي نشر به مجرد رأي والرأي قد يكون صحيحا أو خاطئا ولكنه يحترم على كل حال،ومع ذلك فكل المنابر لا تنشر إلا ما يوافق رأيها وخطها التحريري بل ربما مزاج طاقمها إن كان لها طاقم،ولهذا نجد المنابر الإعلامية تتناسل عندنا يوما بعد يوم ولكل منبره وحركته ولكل حزبه ونقابته ولكل ناديه وجمعيته ولكل شركته ومقاولته…؟؟؟. المنابر بمقتضى هذا الشعار تدعي التعددية والانفتاح وتضمن حرية التعبير والمشاركة في التغيير،وهي في الحقيقة تضرب على نفسها صورا حديديا من المراقبة الذاتية والإقصائية والحزبية والعشائرية يستحيل على المرء اختراقها ما لم يكن من ذوي الوساطة والمعارف والإمعة لا الألمعية ومهما كان مقاله قويا وأصيلا سليما وجميلا قصيرا وجذابا…، بل إن تلك المواصفات الفكرية والأسلوبية الفنية والجمالية قد تكون العلامات المفيدة والمختصرة لعزله وإقصاءه،وكذلك قد تكون الجرأة بضاعة غير مرغوب فيها عكس بضاعة التبرير والتزوير والتنميق والتفاهة والكتابة خارج الموضوع كمن يكتب عن مأساة الحشرات والحيوانات في حين ينسى أو يتناسى المأساة الحقيقية للإنسان،فتجده يتباكى عن حقوق الأحجار والأشجار والأبقار وهي حق ولكنه يخرص إذا تعلق الأمر بالمحرقة العسكرية و”السيسي” في رابعة العدوية وبالإبادة والكيماوي في سوريا و”بشار”؟؟؟.
ليس كل شيء يقال،لكن الجرأة تقتضي قول الحقيقة كما هي والدفاع عن الرأي كما ينبغي والاصطفاف مع أصحاب الحق والمصلحين والمناضلين ودون إسفاف ولا بذاءة ولا تسفيه،الشيء الذي يبحث عنه بعض الكتاب ممن يسمون أنفسهم مبدعين وفنانين وأدباء وإن كانوا لا يخوضون باسم الجرأة إلا في الطابوهات والمستنقعات فلا ينتجون غير أدب مائع يقطر بقلة الأدب؟؟؟.والجرأة تغضب الناس حين تكشف أسرارهم وخصوصياتهم وتخوض في ضعفهم وبلاويهم…حين تترصدهم وتعارضهم وتنتقدهم وتحاسبهم بل ربما تحرض ضدهم وتعلن الحرب عليهم وعلى ريعهم وفسادهم ؟.التضليل الإعلامي خطير،والجهل كارثة، والكسل فقر،والرشوة بلوى،والديكتاتورية مأساة…، ولا يمكن لك أن تقر القوم على هذا وتقول “العام زين” حتى يكونون لك أصدقاء أو ينشرون لك؟؟؟.ناهيك أن جرأتك عليهم إنما هو من باب الصدق والنقد الذي وإن كان مؤلما فهو كالزكام أو ارتفاع درجة الحرارة (الحمى)تصيب الجسم لتنبهه على أن هناك شيئا لا يرام وهو يتربص بصحته العامة إن لم يتدارك نفسه في الوقت وبالشكل المناسب.وقد يذهب المرء عندها إلى الطبيب فيقر بمرضه ويشخصه ويصف له العلاج المناسب، وقد تكون فيه مكونات وأشياء جد مرة ولكنها تجلب الشفاء وتقطع الألم؟؟؟.
لا يمكن أن يكون كل الناس لك أصدقاء ولو حرصت وهم الذين اعترضوا على الله وقد خلقهم ورزقهم فكفروا به وكانوا له أعداء،ولم يقطع عنهم الماء الذي يشربون ولا الهواء الذي يتنفسون كما يسعى إلى ذلك أعداؤنا من البشر؟؟؟. هناك الخصوم والأعداء وهناك المنافسون الأنداء وهناك الغيورون ذووا الأهواء،ولكل رأي و وجهة نظر وله اهتمامات وطموحات ودوائر حياة،وينخرط بالضرورة في مشروع حتى لو كان حطبا وهدفا في مشاريع الآخرين،والمرء عدو ما يجهل،عدو ما قد ينفعه حتى،عدو النظام والانضباط،عدو الوضوح ويتحايل على القانون إذا لم يكن في صالحه،لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، لذا فهو عدو نفسه قبل أن يكون عدو الآخرين؟؟؟. لكن لا أريد أن تكون الكتابة و النشر والصحافة والدعوة والسياسة والإعلام…انطباعيا تشخيصيا أو فكريا تحليليا أو أدبيا فنيا وجماليا أو حركيا نضاليا ميدانيا،لا أريده أن يكون أداة استعداء الناس استعداء مجانيا،فتبعدهم حيث تريد أن تقربهم،وتكرههم حيث تريد أن تحببهم،وتفرقهم حيث تريد أن تجمعهم،وتقعدهم حيث تريد أن تحركهم…،فتكون كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؟؟؟.لابد من ثقافة كسر العداوة وخلق المودة،وهذا يتطلب أن يكون لخطابنا وممارستنا فلسفة ورؤية وأهداف ومرجعية واضحة نعم ولكنها أيضا منفتحة،أو على الأصح ألا تنسينا إياها زحمة الحياة وتعقد أحداثها وتشابكها وشراسة الأعداء،ولعل من أهم ما لا ينبغي أن ننسى في مشاريعنا الفكرية وملاحمنا الكتابية ومعاركنا النضالية وحملاتنا الدعوية ما يلي:
- الوسطية والاعتدال رغم كل شيء:
- وهي تقتضي القول في الأشياء بعلم ومعرفة وعدل وبرهان،لا بمزاجية وهوى وتحامل وحروب ضارية في أمور لا تعدو أن تكون مجرد حوار ورأي يتسع ولا يضيق وتحتمل فيه الحقيقة أوجها متعددة لا وجها واحدا،فكيف إذا كانت الأمور مثل الألسنة و الألوان والأماكن والأذواق لا تناقش؟؟؟.
- النظر الدائم بعين النحلة إلى أزهارها وأملها لا بعين الذبابة إلى قاذوراتها ويأسها واستعجالها،ففي المجتمع إيجابيات وسلبيات ولا ينبغي التركيز على جانب دون آخر،بل لابد أن نعيد النظر في أي الطرحين والمدخلين في المعالجة أفيد:”التركيز على المشاكل أم اقتراح وطرح الحلول”،أو كما يقول محمد قطب رحمه الله:”روائع الإسلام وحقائقه أم شبهات الإسلام ومشاكله”،وإن كان يبدو أن روائع الإسلام ستحبب الناس فيه والرد على الشبهات ستحذرهم من غيره؟؟؟.
- تجنب التسفيه والاستفزاز والاستعراض والتحدي والشتم والكذب: والتبرير غير المبرر وشراء الضمائر والاستسلام للضغوط وموالاة الظالمين والطغاة،فالطغاة وحدهم من يجيدون صناعة الأعداء،فيجعلون لشعوبهم عدوا أو أعداء وهميين حتى لا يتخذونهم أعداء حقيقيين،ويكفي أن يكون الواحد منهم وحده الحر و وحده الغني ففي حريته وغناه حرية وعنى شعبه؟؟؟.لابد من التركيز على المشترك والمتفق حوله بدل الخاص والمختلف حوله،وعلى المستقبل بدل الماضي والحاضر وعلى الحلول والمقترحات بدل المشاكل والأزمات،وعلى الجزئي الممكن لا الكلي المستحيل،لابد من الإبقاء على القدر الممكن من العلاقات مع الخصوم،فهم إن كانوا اليوم أعداء فهم مشاريع أصدقاء في كل لحظة وحين،خاصة إذا ما اهتدينا إلى مفاتيح قلوبهم ودوائهم في قوله تعالى:”ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”،وقول القائل:”أحبب حبيبك هونا فقد يكون عدوك يوما،واكره عدوك هونا فقد يصبح حبيبك يوما”.وغير خاف أن من أدب الحوار كما يقال:”الاعتراض على الأفكار والسلوك وليس على النوايا والأشخاص”؟؟؟.
- الانطلاق في كل الأمور حتى أعقدها من منطق المساهمة والمشاركة فحسب: لا من منطق التمكين والغلبة والشمول والوصاية،وهذا معنى الشورى والديمقراطية والمشاركة،تحتاج إلى رأي الفقهاء والعلماء والخبراء والسياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وكل الفئات الاجتماعية من المواطنين الذين ينبغي أن نحسن استماع بعضنا إلى البعض وخاصة المخالفين ونحسن مشاركة بعضنا لبعض الموالين منا والمخالفين،وفي هذا الإطار يعجبني اجتهاد الحركة الإسلامية المغربية واختيارها الواقعي الذي تعتبر فيه نفسها بأنها مجرد جماعة من المسلمين وليست كل المسلمين ولا وحدها المسلمين،وبأنها مساهمة من بين المساهمات الوطنية،وبهذا قبلت بالآخر وقبل بها(رغم بعض التشويش السياسوي الذي يهوله الإعلام)،حتى أنها في إطار تحديدها للحركة الإسلامية تقبل فيها بكل الفاعلين الحركيين من علماء رسميين وأوقاف وشؤون إسلامية وأطياف الحركات الأخرى والأحزاب الأخرى الذين يشاركونها الهموم والمرجعية والجمعيات والدعاة العصاميين ذوي المنابر والمتصوفون وضمنهم ولاشك الطرقيون ذوو الزوايا ولكنهم من الكفر قد هربوا إلى ما هربوا إليه…،وكل المجتمع رغم اختلالاته في عمقه مسلم يحتاج إلى دعوة وإصلاح لا إلى معاداة ونبذ ومقاضاة؟.فوسعت دائرة الإسلام والمسلمين وكانوا لها أصدقاء لا أعداء ورفاقا لا فرقاء ؟؟؟. وتجسيدا لذلك ينادي المنادون اليوم من أبناء الوطن العقلاء والفضلاء إلى ضرورة تأسيس “كتلة تاريخية” تضم كل الوطنيين الغيورين على مصلحة الوطن من الإسلاميين واليساريين والعلمانيين،فالوطن يحتضن الجميع ويسع الجميع ويحتاج إلى جهود الجميع،ولن تدور عجلته التنموية أو تقوم قائمته النهضوية إذا استعدي منه طرف وأقصي وحورب نية وتصورا فكيف إذا كان ذلك عمليا وميدانيا وتعصبا ومجانيا؟؟؟.ليكن خلافنا ما كان ولتكن عداوتنا ما كانت فمحبتنا وما يجمعنا أكثر وأكثر،فلا نهب ما يجمعنا لما يفرقنا،ولا أقل من أن نجسد ذلك بيننا في ميثاق ضمان حق المواطن،وللمواطن على المواطن مهما كان حقوقا و واجبات إلهية و دستورية:”حق الأخوة والإنسانية وحق الجوار والحي وحق المواساة والمساعدة ناهيك عن حق الخدمات الاجتماعية التي يضمنها الدستور من صحة وتعليم وتشغيل وسكن وغيرها من خدمات الفضاءات العمومية التي لا ينبغي أن يحركها غير المحبة والمواطنة لا نعرة ولا عداء ولا حزبية ولا موالاة ولا لون ولا لسان ولا زمان ولا مكان،وإلا فما معنى الوطن دون عدل ومساواة وما معنى المواطنة دون حقوق و واجبات وما معنى الدين دون محبة وإنصاف ؟؟؟.
- الحبيب عكي
المصدر : https://tinghir.info/?p=3831