نشأت النزعة الإنسانية أو الأنسنة أو الإنسانوية أو (الهيومانيزم) كحركة ثقافية في إيطاليا في القرن الرابع عشر، ثم انتشرت بعد ذلك في جميع أنحاء أوروبا، وقد عاد المفكرون الأوروبيون وقتئذ إلى اكتشاف واستلهام نصوص أفلاطون وأرسطو وهوميروس وفيرجيل وشيشرون وغيرهم لغرض إعادة بناء الواجهة الفكرية والثقافية للحاضر الأوربي، وكان لرواد تلك النزعة اهتمام بالغ بالشعر والأدب، ومن هنا ارتبطت النزعة الإنسانية ارتباطاً وثيقاً باللغات واللسانيات.
يقول (أندريه لالاند) في موسوعته الفلسفية: “ليست الإنسانوية حب العصر القديم وحسب، إنها عبادته، العبادة المدفوعة بعيداً جدا لدرجة أنها لا تكتفي بالعبادة، بل تبذل جهداً في سبيل التكاثر، وليس الإنسانوي هو الإنسان الذي يعرف القدامى ويستوحي منهم، إنّه ذلك الذي يكون منبهراً، منسحراً بنفوذهم وسحرهم لدرجة أنّه يقلدهم حرفياً، يحاكيهم، يكررهم، يتبنى نماذجهم، أمثلتهم، آلهتهم، روحيتهم ولغتهم. إن نزعة كهذه، مدفوعة إلى أقاصيها المنطقية، لا تنزع إلى شيء أقل من إلغاء الظاهرة المسيحية”(1).
يتضح من هذا التعريف أن النزعة الإنسانية قامت على أنقاض الماضي الإغريقي وعلى تأليه فكره والتعبد في محراب العقل والتمركز حوله مقابل إلغاء الوحي والدين كمصدر من مصادر المعرفة الإنسانية. وقد يكون لهذا الموقف صوابية باعتبار التحريف الذي طال الكتب المقدسة التي قامت على تضليل وعي الإنسان الأوربي، وترتب عنها تغول اللاهوت الديني حينئذ وهيمنة الكهنوت المسيحي على الإنسان وعلى قدراته المعرفية.
فما هي الأسس التي قامت عليها النزعة الانسانية في عصر التنوير والحداثة الأوربية؟
في عصر الأنوار سترتبطت الإنسانية بالدعوة إلى رفع الوصاية الإلهية عن العقل، والاعتراف بفاعليته النقدية والحرة، وباستقلال الأخلاق عن الدين (نسبية الأخلاق)، وربط سعادة الفرد بسعادة المجتمع، وهي النتيجة المباشرة للفصل بين الدين والسياسة وبين الدين والأخلاق (العلمانية). يرى ديكارت في تعريفه للنور الطبيعي أو الأنوار بأنه: “مجمل الحقائق التي يتوصل إليها الإنسان عن طريق استخدام العقل فقط(2)
فما هو هذا العقل الذي يتحدث عنه ديكارت؟
العقل الديكارتي يعتبر قوانين الطبيعة مطابقة لقوانين العقل، لأن الله جعلها كذلك، فالعقل والطبيعة مظهران لحقيقة واحدة، وهو – أي العقل- ملكة فطرية، وفيه معارف وأفكار ومبادئ أولية قبلية مركوزة فيه منذ ولادة الإنسان، وبالتالي هي معارف تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية، ويرى ديكارت أن هذا العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي حسي أو خبري، فالعقل في نظره لا حدود له، فبإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم، فهذا العقل بهذه المميزات هو الأساس الذي قامت عليه الحداثة الغربية، ولذلك يرى هيجل أن ديكارت هو واضع أسس فكر الحداثة.
عصر الأنوار أصل مفهوم الإنسانية أيضا من خلال نظرية «القابلية للاكتمال» التي تحدث عنها “جون جاك روسو”، والذي بلورها في إطار رؤية فلسفية جديدة للإنسان يطغى فيها الهاجس الأخلاقي والسياسي على الهاجس التأملي والنظري، وذلك من خلال ثلاثة مفاهيم متداخلة فيما بينها تجتمع في هذه النظرية وهي: مفهوم الحرية، ومفهوم العقد الاجتماعي، ومفهوم الحق الطبيعي، فالتنوير إذن يتمركز حول الإنسان، ويعلن تأليه العقل وتفوقه بغية الوصول به إلى مستويات الكمال الإنساني بعيدا عن الله، يقول غوته: “إنّ النزعة الإنسانية هي ذلك الجهد المتواصل والمبذول من أجل التوصل إلى أروع صيغة للوجود البشري”(3). ويمكن تلخيص الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية في مبدأين:
1- مبدأ الذاتية: والذي يعني النظر إلى الإنسان باعتباره ذات له عقل وله حرية وبالتالي فهو مصدر التشريع لذاته، أي أن الإنسان يستمد مشروعيته من ذاته وليس من قوى مفارقة له، فتم بناء عليه إلغاء الدين والإله من الاعتبار التشريعي والتكليفي.
2- مبدأ الشمولية: أو النزعة الكونية والذي بلوره “كانط” في كتابه “نقد العقل العملي”، ويعني هذا المبدأ الارتقاء بالإنسان إلى المستوى الكوني، بمعنى جعل الإنسان يرتقي إلى مستوى الإنسانية الموجودة بداخل الإنسان، يقول كانط: “يجب على الإنسان أن يتعامل مع الإنسانية الموجودة بداخله على غرار الإنسانية الموجودة في غيره باعتبارها غاية وليس مجرد وسيلة”.
فهذه هي المنطلقات الإبستمولوجية والأسس التي كانت وراء ظهور فلسفة الحداثة الغربية. يشير الدكتور عبدالوهاب المسيري إلى أن ثمة ما يشبه الإجماع على أنّ”الحداثة مرتبطة ارتباطاً تاماً بفكر حركة التنوير الذي ينطلق من فكرة أنّ الإنسان هو مركز الكون وسيده، فليس من الممكن الحديث عن فلسفة الأنوار والحداثة من دون الحديث عن النزعة الإنسانية، بل من الممكن جدّاً أن نزعم أن فلسفة الحداثة تتمحور حول النزعة الإنسانية وتتشكل وفق مبادئها”(4).
من خلال ما سبق نلاحظ أن هذا المنظور يقوم على تهميش المرجعية الغيبة أو الدين، فكل الحقائق يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها بعقله الذاتي، ولابدّ من أن يستخدم عقله فقط كي يحقق لنفسه التنوير، أي أن يلغي المرجعية الغيبة بوصفها مصدرا من مصادر المعرفة، فالإنسان في نظر هذه النزعة الإنسانوية العقلانية قادر على توليد منظومات أخلاقية ومعرفية من خلال عقله الذاتي لا غير.
فهل يمكن للإنسان أن يحيى بهذا العقل وحده؟
إن العقل بهذا الاعتبار يلغي العناية الإلهية بالخلق، ويستبعد تدخل الإله في تاريخ الإنسان عبر الاتصال به بواسطة الوحي والنبوة، ويلغي شغف الإنسان للامتناهي وهو ينظر في ذاته كل أشكال التناهي، هذا العقل يلغي حاجة الإنسان الفطرية إلى فهم وجوده المشدود بين عدمين عدم قبل الولادة وعدم بعد الموت، ذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش ويحيا مع فكرة الموت، ويلغي حاجته إلى من يجيبه عن أسئلته الوجودية الكبرى من أين؟ ولماذا؟ وإلى أين؟، تلك التي تدفعه إلى البحث عن الحقيقة والمعنى لوجود لا معنى له بتعبير فرويد. فالدين وحده هو الذي يقدم جوابا عن تراجيديا الوضع البشري.
قد يكون الدين بلغة كانط غير قابل للاستدلال عليه قياسا إلى ذكاء العقل النظري المحدود بمقولتي الزمان والمكان، لكنه بلغة باسكال له قيمة قياسا إلى ذكاء القلب، بل إن له في نظرنا حقيقة ثابته قياسا إلى ذكاء العقل الصريح والقلب السليم والخبر الصحيح إذا تظافرت معا، وإذا تم دفع المعارض الذي قد يتوهم الإنسان حصوله بين العقل والخبر والحس. فالعقل الصريح بهذا الاعتبار قادر على إثبات يقينية المعرفة الأنطلوجية، ذلك لأن الغيب له وجود حقيقي يقع خارج الذهن البشري، وهو قابل لأن يعرف بتظافر وتعاضد الأدلة العقلية والنقلية والحسية بوصفها مصادر المعرفة البشرية. بشرط صحة الدليل الخبري، فالعقل الصريح بهذا الاعتبار يستلزم تصديق الرسل فيما أخبرت به، إذ لا يمكن وقوع التعارض بين هذه الأدلة باعتبار تلك الشروط..
يبدو أن التنوير الأوربي مظلم، وهذه الظلمة تكمن في ما يعتقد أنّه منبع النور، ذلك أن في فلسفة التنوير ما يؤدي إلى تفكيك الإنسان وتهميشه بدلاً من وضعه في مركز الكون. فحين تخلى الإنسان عن مرجعيته الغيبية واكتفى بذاته، ثمّ جعَل القوانين الطبيعية الأصل الذي يحكم الكون، وجعل نفسه ضمن هذه المنظومة، فهو قد أزاح نفسه بنفسه، “ولذا بدلاً من حلم الذات الإنسانية التي تدرك الواقع وتصوغه وتهيمن عليه، ظهرت الذات التي يتم تفكيكها وردها إلى عناصر مادية في الواقع، لأن دعاة التنوير ببساطة شديدة ينزعون الخصوصية والقداسة عن الإنسان، وتبعاً لهذا ظهر دعاة الإصلاح لتفادي هذه الكارثة، والذين اعتقدوا بإمكانية إصلاح وتعديل هذه الفلسفة وإبعادها عن مآلها المظلم أمثال دور كهايم وهابرماس، وظهر آخرون يبكون على هذه المأساة التي لا يمكن تفاديها مثل ماكس فيبر. وظهر من يعتقد أن هذا واقع لا مفر منه وأن على العالم أن يتقبل هذه الفلسفة مثل جاك دريدا”(5)،
وحده المقدس يجعل الناس قادرين على أن يكونوا معا بتعبير دوركهايم، والحقيقة أنه لا يمكن أن ينقدنا من هذه المأساة إلا إله كما قال هايدغر، وليس أي إله بل الإله الإبراهيمي، إله الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بتعبير باسكال” إله محبة وعزاء، إنه إله يسعدنا حين يملأ أرواحنا وقلوبنا الفارغة، إله يحررنا من مأساتنا… “، إنه الإله الواحد الذي يمتلك العدالة المطلقة التي تحكم هذا الكون وهي العزاء الوحيد الذي يحتاجه الإنسان بوصفه كائنا تراجيديا..
في رواية “مذكرات قبو”، والتي سبر فيها دوستويفسكي أغوار النفس الإنسانية، يبدأ رجل القبو مذكراته -وذلك بعد أن يقدم نفسه للقارئ- بالامتعاض من مدينة (بطرسبرغ) التي يصفها بأنها المدينة الأكثر تجريداً والأشد تصنعاً من بين مدن المعمورة، إنه يشتكي من كل ما تمثله البنى الصناعية /الرأسمالية، وما تتضمنه من عقلانية هندسية فجة، ومن كل شكل من أشكال النماذج الرياضية للكائن البشري، متسائلاً بتهكم: ما العقل؟ ثم يجيب: إنه ليس أكثر من خادم للأهواء._____________________________
(1)- موسوعة لالاند الفلسفية ج2 ص 566.
(2)- مدخل إلى التنوير الأوربي، هشام صالح ص 139.
(3)- نفس المرجع، ص 82.
(4)- دراسات معرفية في الحداثة الغربية، عبد الوهاب المسيري، ص 34. نقلا عن الموسوعة الإسلامية.
(5)- انظر الموسوعة الإسلامية، النزعات الإنسانية في الحداثة الغربية. بتصرف.
المصدر : https://tinghir.info/?p=36583