يقتضِي النقد البنّاء الذي يسْكننا منذ أمَدٍ بعيد تجاه هذا الرّبع المَعطُوب من الجنُوب الشّرقي، وجُود موضوع/ طرف آخر بنّاء وحقيقي يقبل هذا النقد ويتفاعلُ معه، بل يطعّم عثراته ويسدّ – بحُسن نية – زلاته في السّعي نحو الوصُول إلى طُهْرٍ اجتماعي وعقلاني يَليق فِعلا بأهل الجنُوب ويعكسُ بصدق لازمة البعض في أننا أهلُ الإبداع وخاصّته وطاقات لمْ يُنصِفها الحظ أو تناسَاها قصْدا وبسَابق إصْرار.
إن عملية تشخيص ما بنا من أعطاب وأعطال جمّة، أضْحت تُضاهي كبْوَات هذه الحكومة في الذيُّوع بين الناس، لذلك فالجميعُ يعرفُ العلة ومقدار تفشيها في الجسْم المَنهوك، ومن ثمة فنحْن لا نحتاج إلى هذا التشخيص بقدر ما نتوقُ إلى مَعْرفة الدواء وسُبل النّجاة من هذا الوبيل المَريض.
أولى مَنافذ الخلاص مِمّا يرزأ فيه أهلُ الشّريط الجنُوبي الشّرقي من ضنك العيش، هُو الدّخول في عملية شك عمِيقة وزعزعة لبعض المُسلمَات القديمة، التي ورثها البعض من السّلف الجَاهل المُغرّر به، الذي نغفر له كل سقطاته إذا استحْضرنا سِياقه الزمني والمكاني إبانئذ، الشك في أننا الأخيار والعرق الصَّافي وما دُوننا دُونٌ وصَغار. ثم إننا مهْدُ النضال والعِزة والجُود الذي لا ينتهي، وغيرها من الأسْطوانات النرْجِسية التي تُضخّم فينا صُورة الأنا أكثر مِمّا تحتمِله الذات الحقيقة، كل هذا يجبُ أن يُعاد فيه النظر، ومنه العُبور إلى تساؤلات جوهرية عن حقيقة البعْض من أشبَاه مُثقفينا، ولنعلم أن الشّعارات لا تعْكِسُ الواقع مُطلقا، فكثيرٌ من أهل هذا الزمن أضْحى عَالة على مَاضي أهله؛ أهلٌ لم تكن لهُم مزية إلا بضَرُورة الزمن والتاريخ وفراغ السّاحة.
ثاني المنافذ، أن الكثير مِن مُثقفي الجنُوب الشرقي، أو على الأقل أشباهُهم للإنصَاف وعَدم المُبالغة، هُم كذلك بفعل فاعِل؛ لم تمخّضهم مَضائق العلم ودرُوب المُحاضرات، ولم ينفقوا من عُمرهم شيئا كثيرا حتى تحق لهُم الصّفة، بل قد مكِّنوا ممّا هُم فيه أو ممّا يدّعُون أنهم يُمثلونه بسَبب الأيَادِي القبَلية والولاءات والقرابات المشبُوهة، فهم أساتذة وجامعيُّون ومُريدون وأتباع لكبرائهم أعْجاز نخل خَاوية، يحرصُون على تفريخ نمَاذج جَديدة تحملُ نفس التقليد الأعْمى في سِلسلة لا تنتهِي مِن الزعامَات الثقافية الصّورية. ولا أتجنّى على أحدٍ إذْ أصِفُ الواقع وما فيه، وأزمّلُ قلمِي ليصِيح بالتحدّي، فنقُوم بإحْصَاء ما يكتبُون ويؤلفون، فبعضُه سَرقة من الرّواد المشارقة وبعضه الآخر ترجَمة، ودُونهما قرصَنة لجُهد طلبة نُجباء خانتهم مَنافذ الولاية وانقطعت عنهم سُبل الزّبونية والمَحسُوبية المعْرفية. إن مثل هذا الفشلِ المُركب في جهتنا مَردّه إلى أمْثال هذه العُقول المُتحجّرة التي ابتلى بها الله ثقافة هذا العصر، “الذين ظل سَعْيهم فِي الحَياة الدنيا وهُم يحسَبون أنهم يحْسِنون صَنعا”.
ثالثُ المَنافذ يا سَادة، هُو بابٌ فريدٌ دقيقُ المَسلك طريفُ المأخذ، يبدأ من ضرورة شجبنا لثقافة الاسْفاف والابتذال، وأن نمتلك شجَاعة ايقاف بعض الإمّعات وطفيليات الثقافة عِند حُدود مَداركهم. ثم ننتبرُ لننفض الغُبار عن سُلوكات البداوة والايغال في الهمَجية بدافع المُحافظة على التُراث، فثمة فرق كبيرٌ بين التصرّفات الهمجية العَصَبية والحِسّ التراثي النبيل، الذي يُعد قنطرة نعبر من خلال مَاضَويته إلى الحَاضر والمُسْتقبل. إن أمْثال هؤلاء الذين يكبَحُون عَجلة التنمية الثقافية والشّمُولية عامّة بأفكارهم وتصرّفاتهم الاجتماعية النشاز، لا يسْتحِقون الشّجب فقط، وإنما أكثر مِنه؛ المُقاطعة والرد عليهم بالصّاعيْن أو يزيد، فلا يُعقل أن تُسَاس الأمُور بهذه المناطق بعقلية ما قبل الاسْتعمار. فمن يزُور تنغير والنواحي مثلا، يلحَظُ هذا المَرض العُضال طافحًا بشكل فاضِح، بل إن صِنْفا من هُؤلاء وهو محْمُومٌ بانتماء هُوياتي تقليدي حَدّ المَوت، يذهبُ غوْرًا في تقبّل المَفسَدة لنفسِه ومَن مَعه، على أن يُقرّ للآخر بحَق هُو أحق به عَليه. لذلك يبقى وحْشُ التهْميش مُسيْطرا على البلاد والعباد إلى أن يشاء الله لهُ أن يزول بزوال هذا اللاّفكر، أو يجْعل له تعالى من دُونهم مَخرجًا.
إن التشبّثَ بالهُوية المَعطوبة دُون السّعي نحو اسْتدراك عُيوبها، ليُعد حجَرة عثرة أمَام عَجلة التنمية الثقافية/الشمُولية في الجَنُوب الشّرقي. فمُعظم أفكارنا المَحلية لا ترْقى إلى تقبّل الحَداثة وضَنْك الانفتاح الذي سَار في ركبه العَالم كله، فجمَاجمُ مُفكرينا المَحليين لا ترْعَى التنمية إلا في أحجَامها الشكلية بعيدًا عن اللّب الذي به وعليه المُعوّل. (يتبع)
(محمد بوطاهر، الاثنين 6 ماي 2019)
المصدر : https://tinghir.info/?p=36494