لا توجد قوة تفوق في التأثير الفكري، قوة السؤال، ولعل المتتبع لتاريخ الفكر الإنساني يقف على حقيقة مفادها أن الفلاسفة والمفكرين كانوا يثيرون الأسئلة الصادمة لتحريك العقول نحو التفكير في المسكوت والمجهول، وهذا ما أنتج لنا دراسات ومناهج تسعى إلى فهم غوامض الوجود، كما تحاول أن تكتشف ماهية الحقيقة، والعلاقات القائمة بين الغيب والإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، انطلاقا من التعجب والدهشة والرغبة في المعرفة والفهم.
فالذي يطرح السؤال هو فقط من يبحث عن الإقناع العلمي والرسوخ المعرفي والجديد الفكري، وهذا يقود المجتمع نحو حراك حضاري، ويشعل جذوة النور في كثير من الزوايا المظلمة، ويستنطق الكثير من الأفواه الصامتة. ونحن نتحدث هنا عن السؤال المنتج للمعرفة لا أي سؤال، فالسؤال الذي ليس ورائه علم ومعرفة سؤال باطل..
وبناء على هذه الأهمية المنطقية للسؤال، لا عجب كان القرآن الكريم يستعمل الأسلوب ذاته في العديد من قضايا الإيمان الكبرى، التي تؤسس لرؤية كونية تعمل على خط الوجود الإنساني الطويل، من الدنيوي إلى الأبدي، كقول الله تعالى في سورة الزمر الآية: 38: “ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره، أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته، قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون”.
فهذه الآية تشتمل على عدة أسئلة:
-من خلق السماوات والأرض؟
– هل هن كاشفات ضره؟
-هل هن ممسكات رحمته؟
فالسائل هنا نبي، والمسؤول هو من يقر بربوبية الله، ويصرف العبادة لغيره، والحقيقة البحوث عنها هنا هي وجود الله ووحدانيته وتفرده بالخالقية وتدبير الكون، وبالتالي يجب أن تكون النتيجة هي أن هذا الإله هو المستحق لأن تصرف العبادة له وحده…، فالذي يقر بربوبية الله ويصرف العبادة لغيره لديه خلل في الرؤية الأنطلوجية … الشاهد هنا هو أن القرآن الكريم أقر مكانة السؤال معرفيا، وجعل له منهجية معتبرة، وهذا ملاحظ بكثرة وروده وتنوعه، بغض النظر عن السائل إن كان نبيا أو مؤمنا أو مشركا أو كافرا، ما دام السؤال يحمل العلم الذي فيه الخير والكرامة للناس والمسلمين والمؤمنين، وأن الغاية من السؤال هو إثبات الحق، والمعرفة النافعة للناس، سواء بالإجابة المباشرة أو عن طريق تفسير ظاهرة كونية أو بيان فائدة وجودها في الطبيعة.
هذه المنهجية التساؤلية التي تقررت في النص القرآني، وتبلورت في تاريخ الفكر الإسلامي، كانت من المحرمات لدى بعض الأمم وأتباع الأديان الأخرى، خصوصا في السياق الغربي الأوربي خلال القرون الوسطى، التي كبلت عقول الفلاسفة والمفكرين ومنعتهم بالقوة والنار أن يطرحوا الأسئلة على إشكالات الدين والسياسة والأخلاق، وما انفكت تلك القيود إلا من خلال معارك التغيير التي قادها “بيكون” ، و”الباروخ سبينوزا”، و”رينيه ديكارت”، و”جون لوك”، و”فولتير”… وغيرهم، ربما نحو الضد المتفلت على ماضي الاستبداد والتخلف.
الملاحظ اليوم أن هناك فرملة ما لثقافة السؤال وبالتالي للأجوبة والتأملات، خصوصا تلك التي تروم اكتشاف الحقائق ومعايير معرفتها، وما يتعلق بقضايا الوجود وماهيته، والمعرفة ومصادرها وإمكانها، والقيم الأخلاقية وحدودها المقبولة، والجمال والحكمة وغيرها من البواعث على السؤال الفلسفي. فباتت الحاجة ماسة اليوم إلى نشر ثقافة السؤال، وذلك يعني عدم الاستجابة لراية الاستسلام للجوابات الجاهزة والمعلبة.
عبد الحكيم الصديقي
المصدر : https://tinghir.info/?p=36270