عرف المجتمع القبلي بتنغير منذ أشهر حراكا _في تقديري الشخصي_ غير مسبوق، وذلك بعدما دعت وزارة الداخلية ممثلة في الباشايوية إلى إعادة النظر في مسطرة تدبير مسألة الأراضي السلالية التي طرحت وما تزال مشاكل جمة تتداخل في إضرام نيرانها الفتائل الاجتماعية/العرقية بالفتائل النفسية والسياسية والاقتصادية، ويتعلق الأمر بالدعوة إلى استبدال التدبير الجماعي للمسألة بالتدبير الفردي الذي أنتج صورا فظيعة ومشاهد مقرفة من الفساد المركزي والاستبداد المحلي/القبلي إن صح التعبير.
ليس من عادتي أن أقحم نفسي في هذه النقاشات، لا لأني غير معني بها بالمرة، بل لأنني أعرف مسبقا أنها آلية من آليات الضبط السوسيولوجي يلجأ إليها المحزن بين الفينة والأخرى إمعانا في إقناع الرعية بحاجتها الماسة إليه، وإمعانا في إثبات حقيقة أنه في غيابه سلطته وجبروته ورهبته التي تملأ القلوب خوفا وطمعا سيعود المجتمع كله القهقرى إلى زمن البسوس، وداحس والغبراء وذي قار وعنيزة وبعاث وظهر الدهناء والفجار وعكاظ وغيرها من المعارك التي اصطلح على تسميتها ب “أيام العرب”، كما أنها وسيلة من وسائل إشغال الناس وإلهائهم عن الأزمات الحقيقية التي تخنق الرعية وتقض مضاجع ذوي المروؤة من أولي الأمر الذين ابتلاهم الله تعالى بأن يكونوا رعاة، أزمات تحبس أنفاس القطاعات الحيوية التي لا يستثنى في الاهتمام بها أحد: التعليم والصحة وخدمات البناء والتجهيز ) رخص البناء ، الماء والكهرباء، الصرف الصحي والطرق… (
وجدت نفسي ملزما هذه المرة بالانخراط في بوتقة هذا النقاش لسبب قاهر يتمثل في ما روج له بعضهم بخصوص “العظام” أي القبائل التي يحق لها أن تمثل المشهد القبلي في تنغير، وتلك التي لا يحق لها ذلك، هكذا قاد الجهل المركب هذا البعض إلى القول بأن قبيلة “آيت بناصر” لا حق لها في ذلك بحجة أن الناصريين من الآفاقيين الوافدين على الواحة، وأنهم ليسوا من المنطقة لا أصلا ولا فصلا، وهو كلام ينم على أثاف ثلاث على الأقل:
1_الأُثْفِيَة الأولى تتمثل في تجذر الروح العنصرية المقيتة حد النخاع في بعض النفوس المريضة، وهو تجذر يجعلنا نستحضر الحالة النفسية لمشركي قريش وللمؤمنين عند فتح مكة: “إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَوَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” ﴿سورة الفتح 26﴾ والحمية لغة الغضب وحمية الجاهلية عصبيتها كما تفسر ذلك الأحاديث النبوية.
2_الأُثْفِيَة الثانية تتمثل في الجهل المركب الذي يعد أصل كل بلاء ومصدر كل شقاء ومنبع كل داء، وهو جهل ينبغي أن يصحح تفاديا لتكرار أمثال هذه التهم التي قد تؤدي -لا قدر الله- إلى صراعات ونزاعات نحن جميعا في غنى عنها.
3_الأُثْفِيَة الثالثة: وتجسدها مشاعر الأحقاد والضغائن التي تنم عن عمى أصاب البصائر قبل أن يصيب الأبصار.
قبل أن أبدأ في استعراض بعض ملامح من تاريخ الناصريين بواحة تودغى، أود أن أشكر جزيل الشكر الفاضل السيد علي بن لحسن الذي أثار الموضوع في مقالته المعنونة ب”وجهة نظر” وأبان بعض الحقائق التاريخية، ممثلة في كون ناصريي تنغير كانوا من المشاركين في حدث تاريخي حاسم وقوي هو حدث المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 1975، يقول: “و أتذكر أن أيت بهلال و أيت بناصر ساهموا ماديا سنة 1974 لفائدة منظمة التحرير الفلسطينية حينما تم الاعتراف بها كممثل شرعي و وحيد للشعب الفلسطيني الشقيق، حيث دعا آنذاك جلالة المغفور له الحسن الثاني قدس الله روحه الشعب المغربي لمساعدة منظمة التحرير، و ساهمت حينها مشيخة تنغير دون إستثناء.”، غير أني أقول إن تاريخ الناصريين بواحة تودغى أعرق من ذلك بكثير إنه يرتبط أساسا بحدث استقرار جدهم سيدي إسماعيل بن عبد الله بن محمد الكبير بن مّحمد بن ناصر بالواحة منذ أواخر العقد الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة وتحديدا عام 1165ه، الموافق لمنتصف العقد الثامن من القرن الثامن عشر للميلاد 1751م، وسيدي إسماعيا هذا هو الغصن الذي تفرعت عنه الفروع، والبذرة التي نقلت النسب الناصري والطريقة الناصرية من درعة إلى تودغى، نهل العلوم بمقر الزاوية الناصرية الأم على يدي والده الشيخ عبد الله بن محمد الكبير، وصفوة علمائها منذ نعومة أظافره، حلاه الخليفتي في كتابه “الدرة الجليلة” بأنه “كان رضي الله عنه إماما عالما عاملا، تقيا سخيا مطيعا لله، متابعا لسنة نبيه ناسجا على منوال أسلافه، مؤتمرا بأمر عمه الخليفة سيدي يوسف، وممتثلا لأمره ولا يخالفه قط.”، ويذكر الخليفتي أنه رحل إلى المشرق للحج رفقة والده، ومن المؤكد أن يكون قد استغل رحلته الحجازية هذه لتوسيع مداركه وتنمية معارفه عبر مجالسة الشيوخ ولقاء العلماء ونيل الإجازات، ومما يؤكد مكانته العلمية والروحية أن إشعاعه الروحي والعلمي لم يبق حبيس واحته تودغى، فقد ذكر الخليفتي أنه أسس زاوية أخرى ب (إدخسان) الواقعة جنوب شرق مدينة خنيفرة حاليا.
خلال عام خمس وستين ومائة وألف للهجرة الموافق ل واحد وخمسين وسبعمائة وألف للميلاد، رحل من مسقط رأسه تمكروت إلى واحة تودغى، واختار قصر آيت الحاج علي مقرا لتأسيس زاويته، وقد أورد المهدي الناصري خبر هذا التأسيس في كتابه “نعت الغطريس”: “فقد صح عن بعض الصالحين من أهل درعة ، أنه قال: إن تنغير تعدل نصف وادي تدغة، ولذلك اختار النزول فيها الإمام الجليل، الصالح المشهور، نخبة السادات الفحول الشيخ إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن الشيخ الأكبر العلامة اللوذعي، سيدي محمد بن ناصر الدرعي نفع الله به، كان رحمه الله قد خرج من زاوية جده تمكروت، وطاف بالبلاد والأقطار، فمتى هم بالنزول وإلقاء عصا التسيار، أشار عليه بالانتقال رجل من أهل الله الأخيار، إلى أن وصل تنغير، فقال له: هذا محلك، وانصرف عنه بعد أن دعا له ولأولاده بخير كثير، فابتنى هناك زاوية، وانقطع فيها لعبادة ربه، إلى أن توفي ضحى يوم الخميس، رابع عشر رمضان المعظم سنة تسع وتسعين ومائة وألف، ودفن في موضع زاويته، وبنيت عليه قبة بديعة، وقبره مزارة عظيمة، والدعاء فيها مستجاب، وهو ترياق مجرب سائل الله فيه لا يخيب.” .
وقد استمر إشعاع الزاوية الناصرية العلمي والروحي على يد بعض أبناء الشيخ وبعض أحفاده، نذكر منهم: العربي بن إسماعيل وقد حلاه صاحب “طلعة المشتري” بأنه: “فقيه جيد القريحة.”، و أحمد بن العباس بن إسماعيل، وقد حلاه محمد ابن الحبيب التمنوكالتي بقوله: “العلامة الماهر البدر الباهر”، و أحمد بن محمد بن إسماعيل، وقد ذكرصاحب “طلعة المشتري” أنه كان قاضيا على تودغة، ومحمد اليزيد بن محمد بن إسماعيل الناصري وهو أحد من تخرج على يدي شيخ شيوخ تودغة وأستاذ أساتذتها الفقيه الشهير أبي علي الحسين بن محمد التودغي، وعلى يديه ختم “مختصر خليل” في الفقه، و “ألفية ابن مالك” في النحو، وعنه تلقى الشيخ محمد بن علي الدرعي العهد الناصري.
بقلم: خالد ناصر الدين
المصدر : https://tinghir.info/?p=36261