بهذه العبارة سينهي الروائي الإيطالي “أمبرتو إيكو” على لسان بطله «أدسو» روايته الشهيرة «اسم الوردة»، والتي تدور أحداثها في العصور الوسطى الغربية التي كانت مظلمة وفي أوج انحطاطها..
عند قراءتي لهذه الرواية اللغز لاحظت أمرا مهما ربما يغيب عن كثير من القابعين في قبو سلطة الثقافة الغالبة وينحتون مذكراتها في صفحات واقعهم، لاحظت الحضور الضمني والمباشر للمنتج النهضوي الحضاري الإسلامي في تضاعيف الرواية، وقد يؤول ذلك إلى نوع إنصاف واعتراف من “إيكو” بسطوع شمس الحضارة الإسلامية في وقت كان فيه الغرب تحت نير الجهل والتخلف والصراعات الداخلية، فنجده يذكر في مواضع متعددة من الرواية كتاب «تقويم الصحة» لأبي القاسم البلداشي، و«الحسن المختار» لابن بطلان، وحين ذكر الشيخ الرئيس قال عنه: «ابن سينا العظيم»، كذلك كتاب الخوارزمي، وكتاب «علم البصريات»، كما ذكر مكتبة طرابلس التي تضم حوالي 6 ملايين مجلدا، بل حتى الكتب الأرسطية التي وصلتهم عبر المخطوطات الإسلامية..
وفي مشهد جميل من مشاهد الرواية يقول «غوليالمو» أحد أبطالها الرئيسيين في ملاحظته عن وجود «قرآن» بمكتبة الدير: “من الزخرفة يبدو أنه “قرآن”، ولكن للأسف لا أعرف العربية”.
هذا في وقت انتكست فيه هوية بعض أبناء جلدتنا، وتبدلت فطرهم، في شبه انسلاخ من هذا التاريخ الحضاري المشرق الذي تعدت أشعته حدود العالم العربي..
فبعد وفود المرجعية الغربية ذات الطابع المادي والوضعي العلماني إلى بلادنا، تخلق في واقعنا تيار ثقافي يذهب في التقدم النهضوي مذاهب الغربيين، وذلك عندما يدعو إلى استلهام النموذج الغربي مرجعية ينطلق منها فيما يدعو إليه من نهوض.. ولعل أخص خصائص هذا التيار أنه أقام قطيعة مع الموروث الحضاري الإسلامي، واستبدله بفلسفة وضعية تجعل من “العقل” السلطان الأوحد، ويعتبر الوحي والدين صفحة من صفحات طفولة العقل البشري التي طوتها الفلسفة الوضعية، والتي لا تعترف بغير معارف وحقائق الكون المادي والعالم المشهود، ولا تستعين بغير العقل والتجربة..
وبمحاولة الركوب على هذا المنتج الغربي من قبل هؤلاء نرى تناميا في قذف الآخر الإسلامي إلى خارج عالم العقل، واتهاما له بالتخلف والرجعية والجمود، وهو خطاب يقيم تضادا مطلقا بين الصحوة الإسلامية وبين العقل، بين الإسلام وبين العلمانية، بين الحركات الإسلامية وبين التعددية السياسية، تضادا يمهد إلى نسف كل ما هو إسلامي وشطبه، لأنه بزعمهم خارج العقل والتاريخ والحضارة، طبعا الغربية..
هذا الخطاب المؤدلج نجد صداه لا حقيقته عند “أحمد عصيد” الذي لا يمل في العديد من خرجاته الفلكلورية أن يقذف النص الإسلامي المقدس، والعقل الإسلامي، والتيارات المؤثرة في البلدان الإسلامية بوابل من القذائف الجاهزة، كتب مرة يقول: “في قرارة العقل العربي الإسلامي ثمة قناعة راسخة أن أخطاء المسلمين إنما هي أخطاء في التطبيق لا في الفكرة ذاتها، وأن ما يرسخ الخطأ وجود مؤامرة تحاك دائما من الخارج، أي من قوى الشر الأجنبية، وهو ما يضفي طهرية على الذات، تجعلها آخر من يعلم بنقائصها التي تصبح في بعضها فضائح مدوية…”(1).
ولسنا هنا في معرض نقد كلام عصيد في مقاله، فقد ناقشته في مواضع أخرى يمكن الرجوع إليها (2)، لكنني أتساءل هنا: علام يدل كل هذا وإلى ما يشير؟
في رأيي أن هذا يشير إلى الأزمة المتحكمة في رقاب الخطاب العلماني المعاصر والتي تجعل منه خطاب قناعة واعتقاد لا خطاب نقد ومنهج، وهذه سمات تطبع مواقف أحمد عصيد وغيره من العلمانيين، وتختمه بخاتم الأصولية العلمانية لتجعل منه خطابا تغذيه الأحكام المبسترة والجاهزة، خطاب تحكمه الوصاية وغياب الانصاف والمعرفة، وهذا يعني أننا أمام خطاب مأزوم وغير عقلاني ولا ديمقراطي، خطاب ليس من شيمته البحث عن الحقيقة بل البحث عن دور جديد، دور شرطي الأفكار في عالم إسلامي ثقافة وحضارة.
وأتأسف حقا أن «غوليالمو» الذي بلغ من الحكمة ودقة الملاحظة أن يعرف أن ما رآه هو «القرآن الكريم» من جمالية زخرفته فقط، لم يكن يعرف العربية ليقرأه.. فغابت عنه آلية الفهم…
—————————————-
(1)- انظر مقاله الموسوم ب: “لماذا لا يستفيد المسلمون من أخطائهم”.
(2)- انظر مقالي: “خرجات أحمد عصيد في ميزان النقد”، وأيضا الورقة الأولى ضمن بحثي: أوراق نقدية في شؤون الحركة الإسلامية المعاصرة، ص 13، وأيضا مقال: “تهافت الخطاب العلماني المعاصر.. أحمد عصيد نموذجا.
المصدر : https://tinghir.info/?p=36163