إن ارتباط أخلاقيات المهنة بالصحافة هو ارتباط سلوك الإنسان تجاه مجتمعه، والإنسان لا ينتج إلا قيما من ذاته، وانطباعية هذه الذات، تكون منبثقة ومتشربة من تربتها المجتمعية. وبالتالي فهي وليدة بيئتها الثقافية والتربوية. وسيكولوجية أفعالها تحكمها ضوابط اجتماعية وسياسية واقتصادية.
ومهنة الصحافة على غرار باقي المهن، تخضع لأحكام التقويم الأخلاقي المجتمعي، المرتبط بالمسؤولية المدنية والتنظيمية، والقواعد التشريعية والعرفية. والأخلاق لديها ليست امتيازا أو تمظهرا تنظيميا، وإنما تتعداه إلى تجليات القيم والمبادئ التي تمثل جوهر الإنسان. ذلك الإنسان الذي لا تستقيم خدماته ووظائفه المهنية، إلا باستقامة سلوكياته الأخلاقية. فأخلاق الصحافي تسمو فوق مهنة الصحافة ذاتها، وتعلو على ماهية نشر الوقائع والأحداث والمعلومات. وبدونها تنعدم المصداقية والشفافية، وتسقط معها الثقة المهنية وما يتصل بها من أخبار.
وإشكالية أخلاقيات مهنة الصحافة ليس وليدة اليوم، ولا هي وقفا على الصحافة الإلكترونية كما يحاول البعض الترويج لذلك. فبالرغم من أن طرحها الراهن، يفرض نفسه أكثر من أي وقت مضى. إلا أنها كانت وستبقى تأرق القيمين على الشأن العام الإعلامي، بالنظر لها كظاهرة اجتماعية، تترسخ آفاتها وتتكاثر تداعياتها بتعاقب الأجيال والأزمنة. فالمساس بأخلاقيات الصحافة لازم هذه المهنة منذ نشأتها، حيث لم تنكفف الأقلام والأصوات والصور، مهما اختلفت حوامل نشرها ودعامات بثها، عن زرع الشائعات والأخبار الزائفة والمعلومات المغرضة، والتهويل والتخويف والابتزاز ونشر الكذب وتقويض الحقائق وتزييفها. لاسيما في صحف ومجلات عالم السياسة، ومشاهير الفن والإعلام الحربي.
لقد كانت الصحافة المكتوبة والسمعية والبصرية ببعدها الكلاسيكي ذي السلطة العمودية القسرية، تشكل الرأي وتفرضه على المواطن، دون تمكينه من الولوج إلى حيز التعليقات والمراجعة والتفاعلية. حيث كانت الإشاعة صعبة التكذيب، والأخبار الزائفة تحتل مكانا شاسعا من التصديق. والقارئ ليست لديه إمكانية التفاعل والتقويم والتعقيب في حينه. وحتى المقاولات الصحافية في الغالب، كانت تخشى على نفسها تكذيب ما تنشره من تزييف لبعض الحقائق، خوفا من زعزعة ثقة القارئ. إن لم نقل تتعمد ذلك بداعي الحصول على أكبر عدد من المبيعات.
لكن بظهور الصحافة الإلكترونية اصبحت حرية التعبير والرأي أفقية وتشاركية، وأكثر ديمقراطية. ولم يعد الرأي العام رهن وسائله الإعلامية، أو مشروع تفكير في رؤوس الأقلام الصحافية. إذ أضحى المواطن ذاته قلما للتعبير، وفاعلا أساسيا في تشكيل رأيه العام، يتأثر ويؤثر في مشهده الإعلامي. وبذلك تحولت الصحافة من سلطة أحادية في قبضة الصحفي، إلى سلطة تفاعيلة يتقاسمها معه المواطن. وإذا كانت هذه السلطة التفاعلية التي تميز الإعلام الرقمي، تعتبر ترسيخا للديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان. فإنها في ذات الآن، وللأسف، تعد محفزا لممارسة الاستبداد، واغتصاب حرية الآخر والاعتداء على حياة الغير. فهي قد تساهم في إجلاء الحقيقة وتصويب الحقائق، وقد تكون مصدرا للآراء المشوشة والأحكام الجاهزة.
وتعود دواعي هذه السلطة الإعلامية التفاعلية، ذات الوجهين المتناقضين والمعايير المزدوجة، إلى طبيعة الصحافة الإلكترونية وتركيبتها التقنية. التي تجعل من الفضاء الافتراضي، مرتعا للأخبار والأحداث والوقائع، سواء الموثوق بها أوالمجهولة المصدر. معتمدة على الزخم الهائل للمعلومات الرقمية، وعلى قوة النشر الإلكتروني الفائق السرعة. مما يزيد من صعوبة وقف هذه التدفقات الجارفة للأخبار، ومن تعدد واختلاف المصادر، وضعف القدرة على التمييز والدقة بين صحة الخبر ومصدره، من عدمه. وهو ما يدفع لا محالة هذه المعلومات إلى التغذي والنهم من برك الإشاعات والتضليل والتزييف والافتراء. حيث يتصدع مصدر الخبر الواحد إلى مصادر متعددة، وتعليقات متضاربة وروايات متباينة.
وهذا ما يجعلنا أمام تحدي كبير، ومنعطف جديد لأخلاقيات مهنة الصحافة. إذ يستوجب علينا لزاما إعادة النظر، في المنظومة الأخلاقية للإعلام وفي قواعدها المهنية. فالصحافة الإلكترونية، هذا الوافد الجديد على المشهد الإعلامي، قد أنتجت سلوكيات ميدانية، ومظاهر مهنية مستحدثة. لم تكن متداولة سابقا في الصحافة الكلاسيكية. كالتغطية الإعلامية بالصوت والصورة لحوادث مؤلمة، بما في ذلك مشاهد حالات الاحتضار والموت، أونقل وقائع محرجة، مخلة بالحياء العام. دون وازع أخلاقي، أو مراعاة للجانب الإنساني، أوالأعراف والتقاليد المشاعة في المجتمع.
وهذه السلوكيات المهنية التي أحدثتها الصحافة الإلكترونية، لا يمكن تأطيرها أخلاقيا وتشريعيا عن طريق قانون الصحافة والنشر وحده، دون تكييفها مع ضوابط استعمال الأنترنيت وقانون الجريمة الإلكترونية، وحقوق الملكية الفكرية والنشر الرقمي، وتشريعات أخلاقيات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها الفايسبوك واليوتيب، والأنستغرام والتويتير. وغيرها من منصات الاتصال الجماهيري، التي سطرت إدارة مؤسساتها قوانين تنظيمية أخلاقية لمتصفحيها ومنخرطيها.
وبما أن أخلاقيات المهنة مرتبطة ضمنيا بتأهيل المقاولة الإعلامية، وتجويد إنتاجها الإعلامي. وبما أن نظام المقاولات يحكمه منطق الربح والتنافسية والسوق، فإنه يتحتم كذلك على قانون الصحافة وأخلاقياته المهنية، الأخذ بعين الاعتبار خصوصية المقاولة الإعلامية الإلكترونية، وإخضاعها لقوانين التجارة الرقمية والصناعة والمهن والخدمات الإلكترونية. وهو ما سيسهم في صياغة ميثاق أخلاقي مهني، مستوفيا لجميع الشروط المرتبطة بالصحافة الإلكترونية. يجمع بين أخلاقيات الممارسة المهنية، والتدبير المقاولتي والتنظيم القانوني.
وعطفا عما سبق، يتضح أن الصحافة الإلكترونية تقتضي تشريع قوانين خاصة بها، وصوغ معايير أخلاقية رقمية. تراعي خصوصية تكنولوجيا الاتصال والمعلومات الخوارزمية، تنبني على ثلاثة مرتكزات أساسية، تشكل مدخلا من مداخل الإعداد لمشروع ميثاق أخلاقي لمهنة الصحافة عامة، والإلكترونية بصفة خاصة. وهي تتوزع كالآتي :
1 – أخلاقيات المهنة والحريات العامة :
يجب ملائمة مشروع الميثاق الأخلاقي مع :
مقتضيات الدستور المغربي والمواثيق الدولية المتعلقة بحرية الصحافة، والرأي والتعبير وحقوق الإنسان. وحق الولوج إلى المعلومة والأخبار. وحماية الصحافيين.
التوجهات العامة للأمن الفكري والاجتماعي للوطن، وسلامة الشعب وأمن الدولة.
قانون الصحافة والنشر، خاصة منه التشريعات المتعلقة بالصحافة الإلكترونية. مع استحضار الأخلاقيات المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي والأنترنيت، سواء الوطنية أو الدولية.
حماية الحياة الشخصية والمعطيات الذاتية للأشخاص. وتوفير للمواطن إعلام نزيه وصادق ومحايد ومسؤول.
2 – أخلاقيات المهنة والمقاولة الصحفية :
يشمل مشروع الميثاق الأخلاقي الشروط المهنية والتنظيمية للمقاولة الصحفية، وعلاقتها بالصحافيين الممارسين لديها. بحيث يجب :
صياغة ميثاق أخلاقي داخلي خاص بالمقاولة، يضبط بموجبه سلوكيات الصحافي تجاه وظيفته ومشغله. ويضمن له حقوقه وكرامته المهنية والإدارية.
تشغيل صحافيين يتوفرون على شروط الصفة المهنية، وفقا لقانون النظام الأساسي للصحافيين المهنيين.
ضمان الشروط القانونية والحقوق الاجتماعية للصحافيين، وفي مقدمتها نظام التأمين والضمان الاجتماعي. وكل ما يتعلق بقانون الشغل. حتى يتمكن الصحافيون من ممارسة مهنتهم بأريحية، خالية من التوترات النفسية والعصبية، التي قد تخلفها الدوافع الاجتماعية.
تأهيل الموارد البشرية للمقاولة، وتوفير التكوين والتكوين المستمر. على اعتبار أن المؤهل المهني يسهم في تحصين أخلاقيات المهنة.
توفير مناخ جيد وملائم بين العاملين، بمختلف مهامهم الفنية والتقنية والإدارية. يسوده الاحترام المتبادل، وتحسين بيئة العمل بين الإدارة والعاملين، بما في ذلك توفير جودة المقر واللوجيستيك.
تمتيع الصحافيين باستقلاليتهم التامة، وعدم ممارسة الضغط من طرف إدارة المقاولة للانحياز لجهة أو مؤسسة دون أخرى، أو تزييف حقائق الأخبار، بداعي الحفاظ على مصلحة المقاولة الصحفية، أومصالح مدعميها ومستشهريها.
توطيد العلاقة بين الصحيفة وقراءها، واحترام ردود أفعال الرأي العام، وضمان حق الرد.
3 – أخلاقيات المهنة وعمل الصحفي
يجب على الصحافي أثناء ممارسة مهنته الإعلامية أن يتحلى بالشروط الأخلاقية ويلتزم ب :
العمل لدى مؤسسة إعلامية، معترف بها مهنيا حسب قانون الصحافة. والتمتع بصفة صحفي مهني، وفق النظام الأساسي للصحافيين المهنيين، وقانون الشغل. وعدم ممارسة مهنة أخرى غيرها.
احترام مظاهر وآليات ممارسة المهنة، باستعمال معدات وتجهيزات احترافية، تليق بمكانة الصحفي الاجتماعية والمهنية. وتفادي استعمال أجهزة تحط من شأن الجريدة والموقع الإلكتروني والمقاولة الصحفية، التي يشتغل لديها. كاستعمال الهواتف النقالة، وعدم توظيف الاسم والرمز التجاري والمهني للصحيفة.
العمل بنزاهة ومصداقية وبروح المسؤولية والالتزام بالحياد، وعدم الانحياز أو الخضوع والامتثال لأي تأثير مادي او معنوي. سواء من داخل المؤسسة أو من خارجها.
جعل الحقيقة أولوية قصوى، والبحث عنها مسؤولية مهنية، واعتماد وسائل الإثبات والمصادر الموثوق بها كشرط للإفصاح عنها. مع حماية سرية مصادرالخبر، والضحايا وأصحاب الحقوق.
عدم نقل الإشاعات والأخبار الزائفة، والارتكاز على المصادر المشبوهة، واعتماد أسلوب الإثارة والتشويق على حساب المعلومات والأخبار. والبحث عن عدد الزيارات “البوز” على حساب مصداقية المهنة. وضرورة التمييز بين الخبر والتعليق.
احترام الخصوصية الشخصية والمعطيات الذاتية والحياة الخاصة، وعدم التشهير والابتزاز والاسترزاق بقضايا الأمة وهموم مشاغل الناس. وحماية حقوق الأطفال، وعدم استغلال المرأة في الإعلام. والخلط بين الصحافة والإشهار والدعاية. أو نشر الصور بدون إذن أصحابها. واحترام قرينة البراءة.
احترام الرأي والرأي الآخر، واختلاف وجهات النظر. وتعدد الثقافات والإيديولوجيات، وعدم التعصب لجهة أو نزعة دون أخرى.
عدم قرصنة واستنساخ المواضيع والأخبار، وحماية الملكية الفكرية. وتلفيق الصور وفبركة الفيديوهات، وتقطيع العبارات الحوارية، بهدف تحريف معانيها وتغيير سياق دلالات أصحابها.
المصدر : https://tinghir.info/?p=36143