من المفترض وقبل البدء في أي استدلال، أو تحليل لهذا الموضوع أن نضبط المفاهيم أو نحدد: ما “الحركة الإسلامية”؟
لكنني أقول ـ كما قال الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله ـ: إنه لمن الزعم الباطل، والكِبْر العلمي، أن يدعي باحث امتلاك الإجابة القاطعة والشاملة في الآن نفسه، عن السؤال المفهومي التعريفي: “ما الحركة الإسلامية؟” من باب التعريف بكل مقاصدها الدلالية في آن واحد، على سبيل الشمول والإجمال، من أقصى مظاهر انفتاحها واندماجها إلى أقصى درجات التزامها أو انزوائها، وإذن، يكون أبعد ما يكون من الدقة.
إن الحركة الإسلامية ظاهرة معقدة جدا، تحمل في بنيتها الاجتماعية و وعيها الجمعي التراث بشقيه: الديني والفكري، وكذا التاريخ الإسلامي ببعده السياسي والاجتماعي، كما تحمل في بنيتها الحاضر وتراثه الجديد بآلامه وآماله، ثم إنها بعد ذلك ذات أحلام وأشواق في استشراف المستقبل. (1).
ولأن الإجابة عن هذا السؤال المفهومي متعذرة في الدراسات التي تناولت ظاهرة الحركة الإسلامية المعاصرة وأسباب نشأتها فقد ذهب بعض الكتاب المعاصرين كالدكتور “حسن أوريد” إلى محاولة إرجاع الحركة الإسلامية إلى تاريخ نشأة الفرق الإسلامية، وهي محاولة تنظر إلى الحركة الإسلامية المعاصرة، من خلال ظاهرة الفرق الإسلامية التي نشأت في خضم الخلاف الذي حصل في صدر تاريخ الإسلام حول قضية الخلافة، باعتبار أن الحركات الإسلامية التي تنشط في الراهن هي شبيهة بالفرق الإسلامية التي ظهرت منذ فجر الإسلام، وكانت ذات سياسة معلنة وغير معلنة، عن وعي وعن غير وعي، وتتحكم في بروزها أسباب اقتصادية وسياسية وطبقية وتاريخية. ثم يقول حسن أوريد: “فلإن كان لهذه الحركات مسوغ وجود لأسباب اجتماعية واقتصادية وثقافية، فليس لها أن تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة » (2).
ويذهب بعض الكتاب إلى أبعد مدى حين يمارس دور شرطي الأفكار، في سعي إلى الإكثار من محاكم التفتيش الحديثة التي تحتمي بالعقلانية والتنوير من خلال تحريضه للسلطة على مواجهة المد الحركي الإسلامي، ويرى هذا المنظور أيضا أن الصحوة الإسلامية إنما هي نتيجة حتمية لحالة التخلف العام الذي تشهده البلاد العربية والإسلامية كما يرى الأستاذ حسن حنفي، وهذا الخطاب بحسب التحليل النفسي يمكن وضعه داخل خانة ما يسميه أحد المختصين بـ « لا شعور الخطاب » وهو ميل المخاطِب إلى ممارسة التفوق والسلطة ليس إلا.
وهناك خطابات تدعو إلى التخلص من أي تصور ميتافيزيقي، بل وتحاول إلغاء الإسلام من كل مناحي الحياة العامة والخاصة، سياسية واجتماعية وفردية، وهي دعوى لعلمنة القانون، وعقلنة الأخلاق، ومحاولة لإسقاط التجربة الأوربية بحذافيرها على واقع لا يمت بصلة إلى الشروط الثقافية والدينية والسياسية الأوربية، والتي توجت بالانتقال إلى عصر جديد كان وَسْمُه “عصر الأنوار”، ومن بين هؤلاء أحمد عصيد.
وأخص خصائص هذا المنظور أنه يحاول إقامة قطيعة إبستمولوجية مع الموروث الإسلامي، وذلك باستبدال المرجعية الإسلامية بفلسفة وضعية تجعل من العقل السلطان الأوحد، واعتبار الدين صفحة من صفحات طفولة العقل البشري التي طوتها الفلسفة الوضعية، والتي لا تعترف بغير معارف وحقائق الكون المادي والعالم المشهود، ولا تستعين بغير العقل والتجربة.
بل هناك من يرى أن الحركات الدينية غير مؤهلة لفهم خطاب هؤلاء الباحثين (الحداثيين) وانتقاداتهم لها ـ رغم ما يحمله من تضارب وتناقض ـ ذلك لأنها انعكاس للفكر التقليدي السائد الذي لا يخول لها صلاحية فهم متغيرات الواقع، وهو ما لا يؤهلها يقينا لفهم انتقادات هذه النخب، يقول المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد: ” حين نقول بإشكاليات الحركة الدينية فكأننا نعني إشكالية المثقفين مع الحركات الدينية في مؤدى فهم هذه الحركات الدينية لمتغيرات الواقع، إذ لا زالت هذه الحركات بمعزل عن تبين هذه الإشكالية في عمقها (…) فليس فكر الحركات الدينية سوى ما هو سائد من فكر في مجتمعات لم تتغير تركيبتها بعد إلا على نحو نسبي لا يكفي لإحداث متغير نوعي باتجاه الحداثة المعاصرة. ومن هنا فإن معظم هذه الحركات الدينية لا تفهم يقينا انتقادات هذه النخب إلا بوصفها انتقادات متهمة بالتغريب والانحياز للفكر الثقافي الأوربي الغازي » (3).
والخلاصة أن هذه الرؤى والتحليلات المتشنجة تحمل تناقضاتها في داخلها، فهي لا تدري ما الحركة الإسلامية؟، وفي المقابل تنطلق لتنتقد مشروعيتها عبر صرخات الإدانة هذه، بطريقة أكثر أصولية لكن بلباس حداثي، وبخطاب قريب إلى الرطانات الأيديولوجية التي تنتشر في أروقة ثقافتنا المعاصرة.
في المقابل هناك بعض الحركات الإسلامية المعاصرة التي تتضايق من أي أطروحات نقدية لتصوراتها، وتظن ذلك نوعا من أنواع اتهام النيات، فهي تنتشي وتطرب للمديح والإطراء وتتألم من النقد، بل إن بعض العقليات الإسلامية المعاصرة تجرم النقد وإن كان ذاتيا من عندياتها، أي من داخلها، وهو أمر أراه غير صحيح وغير صحي، بل هو ظاهرة صحية يجب المحافظة عليها، وتشجيعها، بدلا من تسرب ظاهرة النفاق الدعوي داخلها، وأن يعلن الناس خلاف ما يبطنون، وأن يسكتوا على مضض على أوضاع لا يقبلونها، أو لا يتفهمونها.
وهو الأمر الذي استشعره الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله حين أصدر كتابه « البيان الدعوي، وظاهرة التضخم السياسي»، حيث قال: « ما أسهل إذن أن يتهم باحث إسلامي في هذا الموضوع ــ من لدن الإسلاميين أنفسهم ــ بالردة الثقافية، والنكوص عن الاختيار الجهادي، والركون إلى الذين ظلموا»، ويعزو ذلك إلى عدم استعداد قيادات الحركات الإسلامية ومنظريها لتقبل النقد الذاتي، إلا قليلا، فما بالك بالمقلدين والأتباع (4).
بقلم: عبد الحكيم الصديقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)انظر البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، للدكتور فريد الأنصاري.
(2) الإسلام والغرب والعولمة ص: 13، بتصرف.
(3) القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، ص: 43.
(4) البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، ص: 8.
المصدر : https://tinghir.info/?p=36064