مجتمع الكراهية

admin
2018-11-18T00:35:04+01:00
اقلام حرة
admin18 نوفمبر 2018
مجتمع الكراهية
خالد ناصر الدين

سؤال مشروع وعميق تبادر إلى ذهني بإلحاح مثير أكثر من مرة: لماذا لم تحظ المشاعر بعد بما تستحقه من اهتمامات المفكرين والباحثين في مختلف التخصصات العلمية والأكاديمية؟ ما الذي يجعلهم يستنكفون عن البحث فيها، وفي مقابل ذلك يخوضون في مختلف المواضيع وفي شتى القضايا ؟ بل لماذا لم يتم التفكير بعد في تأثيل “علم” يهتم بدراسة “المشاعر الإنسانية”؟ أو لا تستحق هذه “المشاعر” أن تنكب عليها جهود الباحثين في التاريخ والسيكولوجيا والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والفلسفة بل وحتى في المنطق والجغرافيا؟ أو ليست هي المحرك الأول والأكبر لكل ما عرفه التاريخ البشري من أهوال وتقلبات وتحولات؟ أو ليست هي المسؤول الرئيس عن كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال ومن ردود أفعال؟ وعن كل ما تعرفه المجتمعات من تحولات وتلقبات وعن كل ما يشيع فيه من ظواهر ؟

سبق لي أن دبجت مقالة تناولت فيها موضوع “الجهل والأمية في مجتمعنا المغربي”، اعتذرت في بدايتها للقارئ الكريم عن تناول موضوع بكل هذه الفظاعة والشناعة، وهاأناذا أجد تفسي مجددا ملزما بالاعتذار عن هذا الاختيار الذي فرض نفسه علي: ما المقصود بمجتمع الكراهية؟ ما دواعي الحديث عن مجتمع استحق هذا الوصف بامتياز؟ ما تمظهرات هذا المجتمع، وما صوره ومشاهده؟ ما الأسباب التي قادت المجتمع إلى الوقوع في مستنقع الكراهية؟ ما البدائل المقترحة لتخليص المجتمع من شعور/فيروس مخرب مُدَمِّرٍ فتاك إلى أقصى الحدود؟

ليس من قبيل الفضيحة نعت المجتمع الذي نعيش فيه بأنه مجتمع الكراهية بامتياز، لا يتعلق الأمر ببحث عن فرصة للسبق أو التميز، ولا بالتطفل عن “السوسولوجيا” التي وصف المنشغل بمداراتها بأنه ذلك الذي تأتي الفضيحة على يديه، الأمر لا يحتاج إلى أدوات بحث أكاديمية تم التوافق على دوالها وإجراءاتها ومعاييرها، كما أنه لا يحتاج إلى تجشم عناءات الغوص في البؤرة عبر مسارات التنقيب والـتأويل والاستكشاف والاستنطاق والاستقراء والاستنباط وغيرها من آليات التفكير المضني… تكفيك لحظات من الـتأمل الرباني الموصول بحبل الوحي، تكفيك كلمات تنسج عبرها علاقات مع شرائح اجتماعية مختلفة ومتنوعة، بل يكفيك استنطاق صادق وشفاف لتاريخ لُطِّخَتْ صفحاته بالدماء، انتصارا لشهوة ظفر على شقيق/عدو، أو استجابة لرغبة جامحة في إذلال الآخر وقهره، أو إرواء لألسنة الانتقام المتصاعدة أدخنتها منذ “البسوس” و”داحس والغبراء”، أو إمعانا في إبادة قبيلة أبدت رغبة في التمرد على سلطة لا يخفى عليها شيء في الأرض ولا في السماء…

“مجتمع الكراهية” يستمد الكثير من مقوماته ودعائمه من الجاهلية الجهلاء التي عاشها عرب شبه الجزيرة العربية قبل شروق شمس الإسلام، مجتمع أبدع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه لِمَلِكِ الحبشة بقوله: “أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف…”، ما الذي يمنعنا من قراءة مجتمعنا المغربي على ضوء هذه الكلمات الجامعة المانعة ؟ ما الذي يمنعنا من استحضار هذه المقومات وهذه المعايير ونحن نحدق بمرارة في قسمات القبح التي تغمر كياننا الجمعي ؟ ما الذي يمنعنا من الوقوف ولو مرة واحدة فقط أمام المرآة الصقيلة لا جلدا للذات وتلبية لنزوع مازوشي قاتل، بل فقد محاولة منا _ربما يائسة_ لفهم الذات، ومحاولة الاقتراب منها أكثر والتصالح معها ما أمكن ؟ وليكن … ولنحاول ذلك، لا إسقاطا غبيا لنصوص احتضنتها كتب السيرة طويلا على واقع متعفن بئيس، ولا تنفيسا عن غيظ زائر وسخط مؤقت، ولا نظرة متشائمة لمجتمع أريد له أن يكون كما هو الآن… بل محاولة فقط _ربما يائسة_ للظفر ب”حبة فهم” على حد تعبير أحد السوسيولوجيين..

ومن المخجل حقا التأكيد أن لمجتمع الجاهلية قيمه الأخلاقية ومزاياه التي أقرها وحي السماء وضاعت تماما في زمن الناس هذا باسم حداثة لم نستعر منها إلا القشور، أو لم يؤكد نبي الرحمة صلوات ربي وسلامه عليه هذه الحقيقة بقوله البليغ: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، أو لم تكن هند بنت عتبة صادقة وهي تبايع النبي صلى الله عليه وسلم في قولتها الشهيرة: “أو تزني الحرة؟؟!!”…

مجتمع الكراهية قوامه مشاعر الحقد بكل مساراته الدلالية والمعجمية (ضغينة، كراهية، حسد، غل…) وبكل ما يستتبع ذلك من أنانية مفرطة، وتشف مقيت، وإساءة للجوار، وانتقام أعمى، وبكل ما يختزنه من سعي لمحو الآخر والقضاء عليه خاصة إذا كان من ذوي الأرحام… وكأن التاريخ يعيد نفسه منذ البدء البعيد/القريب: “واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، إذ قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال: لأقتلنك…”

أرجو أن لا أكون مبالغا في نحت هذا المركب الإضافي الوصفي، كما أرجو ألا يتعلق الأمر بلحظة شعورية عابرة، لذلك سأعمد في مقالاتي المقبلة إلى الإحاطة بالصور والمشاهد التي تعطي لهذا الوصف مشروعيته، كما سأحاول وضع اليد عن أسباب شيوع هذه المشاعر البغيضة التي تستحيل معها الحياة إلى نفق مغلق غارق في بحر من الظلام الدامس، واهتداء بنور الوحي سأذكر بالأدوية الربانية والنبوية التي ستحيي في المجتمع معاني المحبة والأخوة والرحمة والتسامح والإيثار…

المصدرخالد ناصر الدين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.