تعتبر حرية التعبير حقا من حقوق الإنسان الأساسية؛ وقد نصت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الذي تم إقراره سنة 1948)على أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.”
ويتضح من خلال هذا النص أن حقوقا أخرى تقوم على الحق في حرية التعبير؛ إذ هي الأساس في ضمان حق الإنسان في الاعتقاد وحقه في التعبير عن وجهة نظره وحقه في الإفصاح عن أفكاره والبوح بما يجول في خاطره…حول القضايا والمواضيع التي تهمه أو تهم غيره؛ وذلك باستعمال مختلف الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الغرض.
وتعتبر حرية التعبير جزءا لا يتجزأ من الديمقراطية؛ أو لنقل هي شرط أساسي من شروطها؛ إذ لا يمكن أن نتصور ديمقراطية بدون حرية التعبير والرأي؛ وهو ما يعني، بالضرورة، حرية الصحافة والإعلام وحرية التظاهر والاحتجاج وحرية الانتماء وحرية الانتقاد وحرية الاعتقاد…الخ.
وتهم حرية التعبير، في الواقع، كل مجالات الحياة السياسية والثقافية والفكرية والإبداعية…؛ فبدون هذه الحرية، لا يمكن لهذه المجالات أن تتطور وأن يتحسن فيها الأداء والمردود. كما أن بدونها، لا يمكن للفرد أن يتمتع بحقوقه السياسية والمدنية.
لكن حرية التعبير، ككل حرية، ليست مطلقة؛ فهي لها حدود، شأنها في ذلك شأن كل الحريات التي تنتهي، منطقيا وأخلاقيا وقانونيا وحقوقيا وعُرفيا، حيث تبتدئ حرية الغير. ففي المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (وهو معاهدة متعددة الأطراف اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دجنبر 1966 ودخلت حيز التطبيق في مارس 1976)- التي تنص على أن “1. لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. 2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها”- تأتي الفقرة الثالثة منها لتضع بعض القيود على حرية التعبير، حيث جاء فيها ما يلي: “3.تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية: (أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
فممارسة حق حرية التعبير تستوجب، إذن، احترام حقوق الآخرين وعدم المساس بسمعتهم؛ كما تستوجب الابتعاد عما يسيء للنظام العام أو الآداب العامة. وبمعنى آخر، فحرية التعبير لا تعني الفوضى وغياب القيود والحدود في ممارسة هذا الحق، سواء في علاقة مع الأفراد أو مع المؤسسات.
لكن، في واقع الحال، كثيرا ما يكون موضوع حرية التعبير مادة للنقاش والحوار، حتى لا أقول مادة للجدال، بين طرفين، أو توجهين متناقضين؛ واحد، لأسباب قد تكون غير مقنعة وغير مفهومة، يدافع عن حرية التعبير من باب الإطلاق(حرية مطلقة، لا تقبل أية قيود)، والآخر ينطلق من ضرورة تقييد هذه الحرية (حدود حرية التعبير) حتى لا تعم الفوضى. وقد ينعدم التفاهم بين الطرفين بسبب غياب شروط الحوار والتواصل، فيظل كل طرف في موقفه.
ومن يتمعن في مختلف التعبيرات المرتبطة بهذا الموضوع ويتتبع خيوطها، يدرك أنها محكومة باعتبارات خاصة، قد تكون ذاتية أو سياسية أو مؤسساتية أو فكرية أو ثقافية أو حقوقية أو غير ذلك من الاعتبارات. فزاوية النظر التي يتموقع فيها المتحدث، هي التي تحدد نوع الاعتبارات التي تتحكم في رؤيته، سواء كان مع هذا الرأي أو ذاك.
فقد يصل الأمر بالبعض إلى تضخيم القيود حتى يكاد حق حرية التعبير أن ينعدم؛ كما أن البعض الآخر قد يصل به الأمر إلى اعتبار أن من حقه، باسم حرية التعبير، أن يصفي حساباته الشخصية مع هذا الطرف أو ذاك؛ وباسم نفس المبدأ أو الحق، يمكن أن لا يتورع عن اللجوء إلى التشهير وإلى السب والشتم والقذف وترويج الأباطيل والأضاليل… في حق الغير(سواء كان هذا الغير شخصا طبيعيا أو معنويا)؛ وقد يسمح البعض لنفسه، باسم نفس المبدأ، بالإعلاء من شأن الخطاب المتطرف أو الترويج للفكر الإرهابي أو تنفيذ ما يسمى بـ”شرع اليد”، الخ.
وقد انتبهت المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المشار إليها أعلاه) إلى إمكانية حدوث انزلاقات في هذا الاتجاه أو ذاك، فأكدت، في فقرتها الثالثة،على ضرورة أن تكون القيود محددة بنص القانون؛ ومن شأن هذا التحديد أن يحول، بحكم القانون، دون سيادة الفوضى في التعبير، وأن يمنع، باسم القانون، التضييق على الحق في حرية التعبير.
وإذا ما أردنا أن نلقي نظرة على ممارسة هذا الحق في واقعنا المغربي الحالي، فسوف نجد أنفسنا أمام وضع معقد ومركب، ومقلق أيضا، بسبب تطور التكنولوجية الرقمية التي قلبت كل الموازين وغيرت كل المعايير، بفعل ما يمكن تسميته بـ”الحراك الإعلامي” الذي تقوده مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يعرف الكثير من الانفلاتات ومن الانزلاقات التي زادت في تعميق ما كان سائدا من انحرافات في مجال الصحافة والإعلام ببلادنا.
ففي مقال بعنوان“حدود حرية التعبير” (“الحوار المتمدن”، 27 أكتوبر 2006)، كتب السيد “نور الدين بازين” ما يلي: “إن الإعلام المغربي، ليس واقعا متجانسا ونزيها، فهناك عدة ظواهر سجلها تقرير النقابة مؤخرا، حول إشكالية أخلاقية المهنة في المغرب، مثل نشر الإشاعات الكاذبة وتسليط سيف الإرهاب الفكري على الرأي المخالف، واستعمال السب والقذف والمس بأعراض الناس والنبش المغرض في حياتهم الشخصية، وما إلى ذلك من أساليب دنيئة، طالما استنكرها الجسم الصحافي”.
وإذا كانت النقابة الوطنية للصحافة المغربية قد لاحظت وسجلت بكل أسف – في تقريرها “حول حرية الصحافة والإعلام في المغرب 3 ماي 2006″ – استمرار عدة ظواهر كانت قد رصدتها في تقاريرها السابقة حول إشكالية أخلاقيات المهنة في المغرب، فما هو الوضع اليوم بعد الطفرة التي عرفتها، بعد هذا التاريخ (2006)، الصحافة الإليكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ؟
أعتقد أن الوضع قد استفحل، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض المواقع الإليكترونية؛ بحيث أصبح التشهير والسب والشتم والقذف والخوض في أعراض الناس وترويج الشائعات والأخبار الكاذبة وما إلى ذلك، أمرا يكاد يكون عاديا؛ بل ومستساغا، حتى لا أقول مطلوبا، من قبل الجمهور العريض الذي يجد فيه نوعا من “المتعة” ومن التنفيس عن الهموم والترفيه عن النفس.
فنحن، إذن، أمام وضع غير سوي، حتى لا أقول مرضي؛ بحيث أصبح الناس يميلون إلى تصديق الإشاعة وتكذيب الحقيقة. وهو أمر مقلق حقا لكونه يشكل خطرا على الدولة والمجتمع معا؛ ذلك أنه أصبح من السهل، بفعل تطور وسائل الاتصال وانتشارها الواسع، ترويج الكذب وإشاعة الأخبار الزائفة ونشرها بسرعة فائقة. وهو ما يساهم في صناعة رأي عام هش ينجرف بسهولة وراء الشائعات والأخبار المغلوطة؛ وبالتالي، يسهل التحكم فيه واستغلاله من قبل الماسكين بخيوط اللعبة والمتحكمين فيها من أجل استعماله في ضرب هذه الجهة أو تلك.
ونظرا لما يشكله هذا الوضع من خطورة على الحياة العامة والخاصة، فإن الأمر يدعو، في اعتقادي المتواضع، إلى انخراط كل مؤسسات البلاد، الرسمية منها والمجتمعية، بما في ذلك المؤسسات الصحافية والإعلامية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحزبية وغيرها، في مشروع لـ”التربية الإعلامية”، يقوم على قيم الديمقراطية والحداثة وثقافة الاختلاف، حتى يوضع حق حرية التعبير في إطاره الصحيح.
ومن شأن هذه “التربية الإعلامية” أن تحصن الرأي العام ضد الجهات التي تريد استغفاله واستغلاله. فمن خلال تنمية الوعي لدى المتلقي(المواطن) بأخطار التضليل- الذي تمارسه، بوعي أو بدونه، بعض الجهات التي تجتهد في ترويج كل ما هو سلبي- يمكن حمايته وتحصينه ضد الواقع المغلوط والمضلل الذي يخلقه هذا التوجه (تضخيم السلبي). كما أن على التربية الإعلامية أن تنمي لدى المواطن الحس النقدي الكفيل بجعله يميز بين قيمة الأشياء حتى لا يقع ضحية، إما للجهة (أو الجهات) التي تعمل على إلهائه بأشياء تافهة تنسيه في المهم أو الأهم، وإما للجهات التي تعمل على تضخيم كل ما هو تافه وتقلل من قيمة كل ما هو مهم، اعتمادا على الكذب والتدليس من أجل الوصول إلى أهداف قد تكون مدمرة للهوية الوطنية ولكل المؤسسات المجتمعية والدولتية.
مكناس في 11 أكتوبر 2018
المصدر : https://tinghir.info/?p=35031