“لأقتلنك…!”

admin
2018-10-20T22:22:06+01:00
اقلام حرة
admin20 أكتوبر 2018
“لأقتلنك…!”
خالد ناصر الدين

هذه عبارة قرآنية جمعت من القوة والرصانة والإثارة والفاعلية والجاذبية ما يجعلها كفيلة بفهم وتفسير كثير من الظواهر الاجتماعية الذائعة الانتشار في مجتمعنا الإنساني محليا ووطنيا ودوليا، يتعلق الأمر بمشاعر البغض والحقد والكراهية التي تلون العلاقات الاجتماعية بدءا من أفراد الأسرة الواحدة، وانتهاء بالمجتمع الدولي ممثلا في العلاقات بين الدول، مرورا بالعلاقات بين أفراد العائلة الواحدة والقبيلة والعشيرة الواحدة.

العبارة خطاب موجه من مرسل (قابيل) إلى مرسل إليه (هابيل) وتدل على قرار حاسم اتخذه الأول لم يجد مانعا ولا غضاضة في أن يخبر به أخاه، هذه القرار الحاسم أفصحت عنه لام التوكيد ونون التوكيد ثم كاف الخطاب الذي يحدد اتجاه الخطاب ومساره، يتعلق الأمر بالسعي الجاد والحاسم لوضع حد لحياة الأخ/العدو، والسبب في ذلك حقد دفين راسخ، وحسد ملتهب أعمى تتصاعد شرارات لهيبه ساعية لإحراق الأخضر اليابس، ذلك أن الله تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، إنه اعتراض مطلق على المشيئة الإلهية، إنه رفض تام لإرادة الله تعالى ولاختياره، كل ذلك يتفاعل وينصهر في بوتقة القلب الفارغ اللاهي الغافل عن الله عز وجل، وينفتح الباب أمام الشيطان الرجيم ليبث نفثه وضغائنه ووسوسته رويدا رويدا… تتراكم الضغائن شيئا فشيئا… وتنطمس البصيرة تماما، وتمحي كل الاحتمالات ليبقى احتمال وحيد وأوحد… قرار القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد…

القصة نفسها تتكرر، أكيد بأشكال مختلفة، وبصور ومشاهد متنوعة، وبحبكات وسيناريوهات متعددة… كلما تأملت واقعنا الاجتماعي الموبوء، كلما أصغيت أو قرأت ما يقع بين الإخوة وأبناء العمومة وأبناء القبيلة الواحدة، بل ما يقع بين الدول العظمى التي تسمى ب “الدول المتقدمة” والدول المستضعفة المتخلفة ازددت اقتناعا بأن القرآن الكريم وحده يمتلك مفاتيح لفهم الكون كله من أصغر أجزائه وبنياته إلى أكبرها على الإطلاق…

الإخوة الذين ينتمون إلى أصل واحد، وينشؤون في محضن واحد… تتفرق بهم السبل، تتوزعهم الأهواء والتيارات، لا لأن الرزق منعدم أو قليل، لا لأن الفرص أتيحت لهذا ولم تتح للآخر، لا لأن الله تعالى منح هذا ومنع الآخر… بل لأن القلوب قطعت صلتها تماما بالله تعالى… نسيت أو تناست أن ثمة عدو حقيقي متربص بآدم وأبنائه، وأنه أقسم لله عز وعجل قائلا: “فبعزتك لأغوينهم أجمعين”، وأنه تعالى حذرنا منه قائلا: “إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا”… وبعدما نسيت أم تناست استسلمت لوساوسه التي لا تنتهي، فانتهى بها الأمر إلى الندامة بعد فوات الأوان …

وفي الآية إشارة طريفة، تستدعي الوقف عندها مليا، ذلك أن الله تعالى حَمَّلَ النفس الإنسانية مسؤولية هذه الجريمة البشعة، ولم يحملها الشيطان مع أن تفاصيل القصة في كتب التفسير تشير بقوة إلى حضوره، “فطوعت له نفسه قتل أخيه، فقتله، فأصبح من النادمين”، ولعل هذا المعنى هو الذي حدا بالعارفين بالله إلى الإقرار بأن “النفس الإنسانية أخبث من سبعين شيطانا”.

هذه الأحقاد التي تملأ فضاءنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي… والتي تترجمها الشكايات التي تملأ ملفاتها رفوف مراكز الشرطة والمحاكم في أحسن الأحوال، وإلا فإننا تترجم إلى صراعات وصدامات وجرائم قتل وقتل مضاد، ومن يطلع على تنشره وسائل الإعلام المختلفة لا يملك إلا أن يؤكد ما ذهبنا إليه.

إن ما يؤرق فعلا هو أن يحرص الآباء والأمهات على توريث هذه الأحقاد والضغائن إلى أبنائهم، فيعلمونهم منذ نعومة أظافهم أن أبناء عمومتهم هم ألد الأعداء، وأنه ملزم بأن يخذ الحذر كل الحذر منهم، وفي أجواء الكراهية هذه، تنطمس البصيرة، وتتلوث الفطرة، وتتوالد العقد النفسية التي تتضخم شيئا فشيئا لتتحول إلى أمراض نفسية مزمنة يفقد معها المصاب بها طعم الحياة ولذة السعادة والطمأنينة.

لم يحك الله عز وجل قصص الأنبياء اعتباطا، بل لأجل أخذ العبر والعظات، كما أنه يكتف بتشخيص أمراض الأمم وأدوائها، بل إنه اقترح الحلول الناجعة لكل داء، هكذا يعرض لنا القرآن الكريم نموذج الصفاء والنقاء والطهر والاستقامة، كما عرض لنا نموذج الحقد والضغينة والكراهية المطلقة العمياء… صوت يصرخ من قتامة السواد الجاثم على الصدر “لأقتلك”، وصوت يرد بهدوء المؤمن الصابر المحتسب الموقن: “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين”، إنه قانون قرآني كوني هدفه إنشاء عالم متوازن تسوده مشاعر المحبة والتسامح والوئام والاستقرار والتوزان والإقبال على الحياة… لا تقابل إساءة بإساءة، ليس الإحسان أن تُحْسن إلى من أحسن إليك، بل الإحسان أن تُحْسن إلى من أساء إليك… كن كَخَيْرَيْ ابْنَيْ آدم … كن المقتول … ولا تكن القاتل …!!!

المصدرخالد ناصر الدين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.