لا يمكن لأحد أن يتعامل مع التراث الإسلامي وكأنه أحفورة أو لوح فخاري عثر عليه مؤخرا، حتى نضطر لدراسته واكتشافه وقراءته من الصفر، واهم من يعتقد أننا بإمكاننا عزل التاريخ والأحاديث والأخبار عن القراءة المعاصرة لنصوص الدين، نحن أنفسنا امتداد للماضي بمعارفنا المتراكمة وثقافتنا، وبأشياء كثيرة مترابطة.
المهندس محمد شحرور يرمي بهذا التراث كاملا وراء ظهره فهو يقول: “وضعنا كل التراث جانبا، وباشرنا العمل من الصفر انطلاقا من قناعتنا بأن نصوص التنزيل الحكيم بحاجة إلى قراءة واعية ومتبصرة”، (1). الإشكال عند كثير من دعاة “القراءة المعاصرة لنصوص الدين” كمحمد شحرور ومن شايعه هي الانتقائية والاجتزاء، وعدم الاتساق الداخلي في الطرح والذي يصل إلى حد التناقض، وسنقف على شيء من ذلك في هذه السطور.
قبل أيام من دخول شهر رمضان الكريم، نشر محمد شحرور مقالة على صفحته يجيز فيها الإفطار في رمضان لمن شاء وإخراج الفدية بدلا عن ذلك، متخذاً أسلوب التلاعب بآيات القرآن الكريم، حيث اجتزأ الآية الكريمة {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ۚ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} عن الآية التي جاءت بعدها مباشرة والتي جاءت فيها فريضة الصيام بطريقة إلزامية على كل صحيح مقيم وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ}.
يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره: “”حَسبُ قولٍ بخروجه عن قول جميع أهل العلم دلالةً على خطئه”(2). إذ لم يقل أحد من علماء الأمة ابتداء من الصحابة ومن بعدهم أن المسلم البالغ العاقل القادر “مخير” بين صيام رمضان وبين الفدية، بل أجمعوا على فرضيته، ونقل الإجماع كبار علماء الأمة كما في “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” لابن رشد الفيلسوف، قال رحمه الله: “فأما صوم شهر رمضان، فواجب بالكتاب والسنة، والإجماع (…) وأما الإجماع: فإنه لم ينقل إلينا خلاف عن أحد من الأئمة في ذلك”.
ويضيف: “وأما على من يجب وجوبا غير مخير: فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم، وهي الحيض للنساء. هذا لا خلاف فيه، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ} (البقرة، الآية: 186) (3).
وأنا لا أفهم كيف يلزم المريض والمسافر بوجوب القضاء بقوله: {فعدة من أيام أخر}، ويخير الصحيح المقيم بين الصيام والفدية، أليس المسافر والمريض أولى بالتخيير؟، لو كان في الأمر تخيير كما ادعى شحرور لقال: وعلى الذين يستطيعونه إن لم يختاروا الصيام فدية، أو لقال: وللذين يستطيعونه فدية، لأن اللام للتخيير، و(على) للوجوب، ولو قال: لا يطيقونه لعنى بذلك من إذا صام هلك، لأنه لا يكاد يوجد أحد لا يقدر أن يصوم حتى المرضى والعجزة وإنما تغلبهم المشقة والجهد. وأنت لا تقول لشيء إنك تطيقه إلا ما بلغ منك أو كاد غاية طاقتك، فلا تقول: أطيق المشي أو أطيق الكتابة أو أطيق شرب الماء، ولكن تقول: أطيق رفع 150 كغم من الأثقال مثلا، ثم لماذا قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، فلم يخير ولكن استثنى المريض والمسافر؟. ناهيك عن الأحاديث الصحيحة الصريحة الواردة في هذا الباب وما وصلنا بالتواتر العملي جيلا عن جيل.
يقول الأستاذ “بلال زرينه”: “من تناقضات أصدقائنا أنصار الدكتور المهندس محمد شحرور أنهم يقولون: لسنا بحاجة للأحاديث في معرفة كيفية أداء الصلوات الخمس؛ لأنها وصلتنا بالتواتر العملي جيلا عن جيل!، وفي نفس الوقت نراهم لا يعترفون بالتواتر العملي عندما يقولون: إنّ القرآن يقول بأن صيام شهر رمضان هو فرض على التخيير؛ بمعنى أنه بإمكان المسلم أن يصوم وبإمكانه أن يدفع فدية طعام مسكين عن كل يوم يقرر فيه أن يفطر، حتى لو كان إفطاره بدون عذر من سفر أو مرض؛ وإذا ناقشت هؤلاء وقلت لهم: لقد وصلنا أيضا بالتواتر العملي جيلا عن جيل أن المسلمين خلال أكثر من 1400 سنة كانوا يصومون شهر رمضان ولا يجيزون دفع الفدية للقادر على الصوم يقولون لك: لا يهمّنا هذا، حسبنا ما نفهم من الكتاب! (4).
مرة أخرى أسألك : ألم يصلنا أمر الصيام وملحقاته بالتواتر العملي؟، ألم تفهمنا يا مهندس شحرور أن طاعة الرسول تكون في الشعائر، والصيام من هذه الشعائر؟ فكيف نفسر هذا التناقض وعدم الاتساق في طرحك، وأن تقول شيئا ونقيضه؟
على أي حال فإن هذه الطريقة في التفسير تسمح له بأن يقول أي شيء، في أي موضوع، ويقول: هذا من التجديد، وبما أنه أسقط أصول الفقه والفقه وأهلهما فما الداعي وقتها لقواعد اللغة أصلا، وبهذا يصبح الدين يحتمل أي شيء وبالتالي لا يعني أي شيء. (5).
عبد الحكيم الصديقي
—————————————————-
(1)- أم الكتاب وتفصيلاتها، محمد شحرور، ص 20.
(2)- تفسير الطبري “جامع البيان عن تأويل آي القرآن”، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: عبد الله التركي، هجر للطباعة والنشر، الجيزة، الطبعة الأولى: 1422هـ – 2001م، ج1، ص 418، نقلا عن صفحة الأستاذ يوسف سمرين على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك.
(3)- بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن رشد القرطبي، ج1، ص 508-509.
(4)- اجتهاد جديد أم اختراع دين جديد!، مقال للأستاذ بلال زرينه، منشور على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك.
(5)- بؤس التلفيق، نقد الأسس التي قام عليها طرح محمد شحرور، الأستاذ يوسف سمرين، ص 33.
المصدر : https://tinghir.info/?p=33910