فلسفة الصيام لا تدرك إلا بحسن التأمل والادكار، إنه تأكيد لفضل الروح على الجسد، وحاجة العبد لاستصلاحها من حين لآخر، وألا يفرط في التنعم الجسدي، إن الصيام فلسفة تقضي أن يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة، ليحل محله (تاريخ النفس)…كما يقول الاستاذ الرافعي رحمه الله، أي التباعد عن المسلك الحيواني في الحياة، وإعلاء جانب الروح، وألا يكون المرء مقاتلا من أجل بطنه وشهواته فقط.
إن الصائم يرى الشهوات والملذات فيعصمه إيمانه، وكلما حاول هواه، رده بالمجاهدة والصبر، وكذلك يجوع فيحتمل، ويعطش فيصبر، ويعتقد أنه في عبودية لله، وربما اشتغل وكان ذا مهنة، ولا تحدثه نفسه بالتمرد الشيطاني، وإن حدثته قاوم ذلك وجاهد في الله حق جهاده، تدينا وأدبا وامتثالا.. هذا الجوع والعطش ينتهي بالصائم إلى حدائق الإخلاص، حيث يمسك ولا يدري به أحد، فهو من أعجب العبادات الخفية، التي تربي غراس الإخلاص في الفؤاد، وهو سر بين العبد وربه.
ومن ههنا – يقول مصطفى صادق الرافعي – يتناول الصوم الإنسان بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد، وحسٌّ واحد، وطبيعة واحدة، ويُحْكِمُ الأمر؛ فيحول بين البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصيبة في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة.
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة، تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبِع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته.
فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
وبمناسبة حلول شهر رمضان الكريم أسأل الله أن يهله عليكم جميعا وجمعاوات باليمن والبركة، والتوبة والمغفرة، وأن يتقبل منا جميعا صالح الأعمال، إنه كريم مجيب.
المصدر : https://tinghir.info/?p=33874