يعتبر القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يتفق ويجتمع حول صحته لفظا وأصلا جل المسلمين عبر التاريخ وإلى يوم الناس هذا، باعتباره “الكلام المعجز المنزل على النبي (ص)، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المتعبد بتلاوته”، وهو الكتاب الوحيد الذي يجمع بين الإعجاز، والتنزيل، والكتابة في المصاحف، وهذه الخصائص هي ما يميز القرآن الكريم عن جميع ما عداه، بمعنى أن جميع المصنفات والمؤلفات والكتب وغيرها مما دوَّنَه البشر يبقى في دائرته النسبية يخضع لمنطق القابلية للصواب والخطأ، والرفض والقبول، وبالتالي تنتفي عنه صفة القداسة.
وهنا يجب أن نتساءل: لماذا تفرقت الأمة الإسلامية بعده إلى مذاهب وفرق وطوائف وجماعات وحركات متصارعة، حتى استحال الأمر في الكثير من القضايا والوقائع إلى التشريع للقتل والذبح والإخراج من الملة باسم الإسلام؟.
ويتبع هذا السؤال سؤال آخر: ألم يرسم القرآن الكريم معالم لمنهج يوحد كلمة المسلمين ويدرأ عنهم التمزق والشتات والصراع الذي يتخوضون ويتخبطون فيه؟.
إن الاختلاف بين هذه التيارات الإسلامية ضل طريقه وأصبح إدمانا على التشتت والتقاطع تحت يافطات وعناوين مذهبية وطائفية وحركية يتجمد عقل المسلم عندها، ويصبح مجرد تابع مقلد مستلب عديم الفعل والإنجاز.
وقد حاول ابن تيمية رحمه الله تجلية هذا الالتباس، وكشف النقاب عن أسباب الاختلاف بين المذاهب “السنية” التي وصلت إلى حد التناقض والتضارب في كتابه “رفع الملام عن الأئمة الأعلام” محاولا تبرئة العلماء من هذا التمزق والشتات الذي عرفه أهل السنة بين مذاهبهم، وليس بينهم وبين الطوائف والفرق الأخرى كالشيعة مثلا، وتبرير مواقفهم باعتماد طرق استنطاق الحديث من حيث الورود و الفهم والحكم عليه صحة وضعفا.
ولعل الأصح أن هذه المذاهب والطوائف والفرق والجماعات والحركات والتي تتلبس بالإسلام وتصل إلى حد التناقض لا تعبر عن تنوع وغنى في الفكر الإسلامي بقدر ما تعبر عن كثافة التشويه الذي لحق بالإسلام والقرآن حتى أصبح من اليسير أن يبرر المستبد استبداده، والقاتل قتله، والإرهابي إرهابه، والمفسد فساده، بمرويا من كتب الحديث ومراجع فقهية وعقدية.
بمعنى أن الموروث الديني الذي استنطقه أتباع هذه الأيديولوجيات باعتباره موروثا مقدسا و”وحيا ثانيا”، ويأتي في الدرجة الثانية في التشريع بعد القرآن الكريم على المستوى النظري ويضاهيه ويقابله ويماثله على المستوى العملي والتطبيقي هو نفسه سبب هذا التمزق والتقطع والتردي الذي يعرفه المشهد الإسلامي، مع اختلاف في طرق التقديس وآليات الاستنطاق.
وهذا مؤدى توظيف هذا الموروث الحديثي بما فيه صحاح كل فيلق وطائفة لاختزال مفهوم الأمة نفسه إلى أمم صغيرة كل منها تدعي امتلاك ناصية الإسلام، وتقبض على زمام حقيقته المطلقة.
إن آفة تقديس التراث وتوظيفه سياسيا جعل الأمة الإسلامية بين المطرقة والسندان، إما أن تحيى بأمن وسلام تحت مطرقة الاستبداد والجهل والتخلف، وإما أن تقبع تحت سندان الصراعات الطائفية والتطاحنات المذهبية، ولا سبيل للخروج من هذه الأزمة الفكرية والحضارية التي تذهب كل يوم بريح المسلمين إلا بالاجتماع والتمحور حول القرآن الكريم ومدلولاته القطعية، وذلك لن يتم في نظري إلا بتضييق مداخل إسقاط مفهوم التقديس على التراث الحديثي، وتوسيع مدخلية أنسنته وعقلنته وبالتالي يصبح للاجتهاد قابلية وللاختلاف دلالة الرحمة القرآنية. وفي نفس الوقت تحفظ للقرآن قداسته ولله تعالى قدوسيته، وللعقل أصالته.
المصدر : https://tinghir.info/?p=31711