من بين التعاريف التي أتذكَّرها عن الثقافة هي أنها “ما يبقى بعد أن تنسى كل شيء تعلمته في المدرسة”. وتصر ذاكرتي، هذه الأيام، على تنشيط هذه العلاقة بين الثقافة والنسيان، من خلال استحضارها، وبشكل ملح وقوي، للنزر اليسير الذي علق بها من دروس الفلسفة بقسم البكالوريا للسنة الدراسية 1968-1969؛ وذلك، كلما استوقفني تحليل سياسي متعالم أو استفزني تدخل متعجرف أو أغاظني تعليق بليد أو يستبلد الغير، الخ.
وبما أننا في شهر أكتوبر الذي يتم فيه إحياء “اليوم العالمي للمدرس”، فلن أترك هذه الفرصة تمر دون أن أعبر عن امتناني وتقديري لكل أساتذتي الأجلاء، الأحياء منهم والأموات، المغاربة والأجانب، الذين تتلمذت على يدهم في مختلف مراحل التعليم (من الابتدائي إلى العالي؛ ولن أنس، قبل كل هؤلاء، من تعلمت على يدهم الكتابة والقراءة بـ”المسيد” وحفَّظوني قسطا من القرآن الكريم؛ أعلم أن اثنين منهم، على الأقل، لا يزالان على قيد الحياة، أطال الله في عمرهما)؛ وأتذكرهم، هنا، عرفانا واعترافا مني بفضلهم علي في مساري الدراسي والمهني.
وبما أن المناسبة شرط، كما يقول الفقهاء، فإني أخص بالذكر أستاذ مادة الفلسفة، الذي عرَّفنا على الفلاسفة اليونانيين؛ وفي مقدمتهم “سقراط”. ولم يكن الأستاذ المعني سوى الأديب الشهير “الطاهر بنجلون” الذي درَّس لنا الفلسفة باللغة الفرنسية بثانوية الشريف الإدريسي بتطوان، حيث كنا أول فوج يحصل على البكالوريا المزدوجة (عربية/ فرنسية) بشمال المغرب الذي كان محتلا من قبل إسبانيا.
وانسجاما مع تعريف الثقافة المشار إليه في الفقرة الأولى، فإني أؤكد أن كل ما بقي في جعبتي حول الفكر والفلسفة(الفلسفة العامة، أقصد) من تلك الفترة، هما مقولتان للحكيم “سقراط”: “اعرف نفسك بنفسك” ( (connais-toi toi-mêmeو”لا أعرف سوى شيء واحد، هو أنني لا أعرف شيئا” أو “كل ما أعرفه، هو أنني لا أعرف شيئا” (je ne sais qu’une chose, c’est que je ne sais rien ou tout ce que je sais, c’est que je ne sais rien).
إنهما مقولتان بسيطتان في الشكل، لكنهما عميقتان من حيث الدلالة. وإدراك هذا العمق الدلالي لا يحتاج لذكاء خارق بقدر ما يحتاج إلى القدرة على الوعي بالذات، الكفيل بتمثل الإمكانيات الحقيقية لهذه الذات بما لها وما عليها. ومن شأن الاهتمام بالذات والبحث فيها أن يكشف نقائصها وجهلها، فيعي الإنسان حقيقته ويدرك بذلك أهمية فضيلة التواضع، مفتاح الدخول إلى عالم الحكمة.
وبقليل من التفكير في واقعنا الحالي، خاصة ذاك الذي يعكسه الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي والأخلاقي والديني والتربوي وغيره (دون أن أنسى ما يعج به الفضاء الأزرق من تعاليق سخيفة وتفاعلات تافهة مع تدوينات غاية في الأناقة الفكرية والتعبيرية)، ندرك راهنية فكر سقراط ومنهجه في الوصول إلى المعرفة؛ ومن هنا نستشعر الحاجة إليه وإلى حكمته.
ولن أغوص في المحتوى الفلسفي لمقولتي “سقراط” ولن أخوض في النقاشات الفلسفية التي أثارتاها والتي لا زالتا تثيرانها؛ كما لن أهتم بالخلافات النظرية التي تولَّدت عن هاتين المقولتين اللتين يمكن اعتبارهما الأساس الذي قامت عليه مدرسة سقراط في العلم والمعرفة. فما يهمني من هذا كله، هو الدرس الأخلاقي والإبستمولوجي للمقولتين السالفتي الذكر.
فكم أستشعر الحاجة إلى هذا الدرس( !) وأشعر بأهميته وملحاحيته، كلما سمعت تلك التحاليل السطحية والضحلة التي يقدمها، بغرور طافح، بعض المحللين السياسيين الذين “يحتلون” بعض القنوات التلفزيونية والإذاعية، وكأنها حقائق علمية ثابتة؛ أو كلما قرأت، في الصحافة، لبعض الأقلام والكتبة الذين يفتقدون لحس المسؤولية الأخلاقية والمهنية ولا تعني لهم الكتابة سوى التملق والاسترزاق أو تصفية الحسابات.
والخيط الناظم بين هؤلاء وأولئك، هو كونهم يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء ويفهمون في كل شيء؛ ولا يتورعون عن تقديم الدروس والنصائح، بكل وقاحة، لمن يفوقهم نضجا وعلما وخبرة وتجربة.
لقد كان من المفروض أن يكون وضعنا العام (سياسيا واجتماعيا وثقافيا…) أفضل مما نحن عليه. لكن يبدو أن نبوءة السوسيولوجي اللامع، المرحوم “محمد جسوس”(“إنهم يصنعون جيلا من الضباع”)، التي أغضبت الملك الراحل الحسن الثاني، قد تحققت في بعض نخبنا (أقول البعض حتى لا أتهم بالتعميم، وأنا، شخصيا، أمقته) الفكرية والسياسية والثقافية والإعلامية وغيرها، حيث أصبحت السطحية والضحالة والرداءة… من علاماتها المميِّزة وسماتها البارزة، وأصبحت عندها الانتهازية والوصولية والعجرفة و”السَّنْطيحة” قيما أخلاقية، بحيث يبدو، في بعض المجالات، أن هذه القيم قد سادت ونجحت في طرد القيم الإنسانية والثقافية والفكرية… من محيطها، كما تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة أو كما تخنق الموسيقى الرديئة الموسيقى الجيدة…
لقد حصل الوعي على أعلى مستوى في الدولة (عبرت عنه العديد من الخطب الملكية) بعدم قابلية استمرار الوضع على ما هو عليه. ولا بد أن نُذكِّر، هنا، بأن ما نعيشه من ترد، يكاد يشمل كل المجالات، لم يكن قدرا محتوما؛ بل هو نتيجة حتمية لاختيار سياسي “واعي”، استهدف عماد الحضارة والتقدم.
لقد ارتكبت دولة الاستبداد (خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص) خطأ فادحا حين اعتبرت الفكر معاديا لها، فعملت على تجفيف ينابيعه التي هي العلوم الاجتماعية. نتذكر إغلاق معهد السوسيولوجيا بالرباط (بداية السبعينيات من القرن الماضي) الذي تلاه التضييق على شعب الفلسفة بكليات الآداب؛ بالمقابل، تم إحداث شعب للدراسات الإسلامية بتلك الكليات والتي استقطبت وكونت (ولا زالت) أجيالا من الشباب المعادي لقيم العقل والحداثة باسم قدسية النص والمعرفة المنقولة. فحتى شعار الإمام الشافعي ” رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، لا تجد له صدى لا في الخطب المنبرية (خطب الجمعة) ولا في دروس “الوعظ والإرشاد” التي تشرف عليها المجالس العلمية ولا في إنتاج من يحسبون على صف العلماء ولا في الخطاب السياسي الذي يتخذ الإسلام مرجعية له…
وإذا أضفنا إلى كل هذا، العبث السياسي الذي مارسته الدولة والمتمثل في خلق أحزاب سياسية (ما يعرف في القاموس السياسي المغربي بالأحزاب الإدارية) وتمكينها بالتزوير المفضوح بالأغلبية المطلوبة لقيادة مؤسسات الدولة، سواء التمثيلية منها (البرلمان والجماعات الترابية) أو التدبيرية (الحكومة)، ندرك أسباب الأعطاب التي يعاني منها الحقل السياسي، سواء فيما يخص ضعف النخب السياسية وفسادها أو فيما يخص انعدام الثقة في السياسة والسياسيين.
فالخصاص، إذن، كبير وكبير جدا، وتعاني منه بلادنا في مجالات عدة، إن لم يكن في كل المجالات. مما يعني أننا في حاجة إلى ثورة ثقافية وتربوية حقيقية، تسترشد بفكر “سقراط” ومنهجه في الوصول إلى العلم والمعرفة وتقوم على أنقاض “الزلزال السياسي” الموعود الذي عليه أن يحدث “الخراب” في “كل أنماط الوصولية والريع والفساد والرشوة… والأفكار المخزنية العتيقة…” ويحرر “الإدارة من صنائعها… والدولة من أثقالها الحزبية والتقنوقراطية والزوائد الدودية…” ويجعل”قيمة السياسة في الفعل المتجرد والنزيه ويعيد للأخلاق السياسية… دورها”(عبد الحميد جماهري، “الاتحاد الاشتراكي”، الاثنين 16 أكتوبر 2017).
المصدر : https://tinghir.info/?p=31421