كأني ب “كبار” العالم يتعاملون مع “صغاره” تماما كما يفعل الراشدون مع الأطفال الصغار عندما يلمحون بين أيديهم أدوات حادة أو أشياء قد تشكل خطرا عليهم أو على الغير، فيسارعون إلى نزعها واستخلاصها درءا لأي مكروه محتمل.
هذه “الرعاية الأبوية” من لدن الدول العظمى عسكريا واقتصاديا إزاء الدول الصاعدة، بل وهذا الحذر الشديد منها، يظهرهما الإعلام المسخر حكمة شفوقة حريصة على الشرعية الدولية وعلى السلم العالمي، أستعمل مصطلح “الصاعدة” إذ هناك فعلا دول في تحد وصعود مستميتين رغم الموانع الشائكة الصعبة من حصار وتهديدات وعقوبات، أقول “الصاعدة” عوضا عن مصطلح “النامية” الذي يحمل دلالات ازدراء وتحقير للدول التي يقال عنها إنها سائرة في طريق النمو، وهي في واقع الحال لا تبرح مكانها، وذلك طبعا يرجع فيما يرجع إليه إلى السياسة غير الرشيدة التي ينتهجها اللصوص الخونة وأذناب التبعية، عملاء الاستعمار وعنوان الاستحمار، قادة الاستبداد والاستفراد في بلاد الاستعباد.
إن الراشد يشفق فعلا على طفله من كل سوء ومكروه بكل صدق ومحبة، يحرص على سلامة صغيره ومحيطه، فهل هاجس دول الاستكبار هو الحرص على مصلحة الضعفاء وعلى وئام الأمم وعلى سلام العالم؟
بالتأكيد لا وألف لا، فلسنا بحاجة إلى خبراء في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية حتى يثبتوا لنا بالبراهين الدامغة والأدلة القاطعة أن هَمَّ “منتخب الفيتو” مع حلفائه الأقوياء شرقا وغربا هو الحرص على إبعاد كل ما من شأنه أن يضايق عظمته العسكرية وزعامته السياسية وريادته الاقتصادية، والحرص أشد الحرص على إخماد أية إرادة جادة للتحرر من التبعية، ثم الحرص تمام الحرص على وأد أية همة ماضية تتطلع إلى اقتحام أسوار السبق العلومي والتكنولوجي الذي يسيج به الاستكبار “مملكته” العالمية المنيعة.
لقد تمخضت مآسي الحرب العالمية الثانية عن حاجة الإنسانية الملحة لضمان الأمن العالمي، واستبعاد شبح أمثالها من الحروب القذرة، فتم تأسيس هيأة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي الذي تربع على عرشه “منتخب الفيتو” القوي المشكل من الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفياتي (سابقا قبل التفكك، روسيا الاتحادية حاليا)، المملكة البريطانية، الجمهورية الفرنسية، وجمهورية الصين الشعبية، الدول الخمس الكبرى هذه هي التي لها حق العضوية الدائمة في مجلس الأمن، والتي تستأثر بحق امتلاك أسلحة الدمار الشامل وحق النقض “الفيتو” في القرارات الأممية المصيرية، وكان من المفترض أن يعمل هذا المنتخب على تخليص العالم من مخاطر الدمار النووي الوشيك، وذلك عن طريق منع باقي دول العالم من التسابق لإنتاج الأسلحة النووية، مع السعي التدريجي التفاوضي “مبدئيا” لتقليص ترسانة كل من أعضائه من هذا السلاح الوبيل الفتاك، إذ شاهد العالم باكورة دماره في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، ولمَّا تبلغ التكنولوجية النووية البدائية يومئذ من القدرة التدميرية معشار ما هي عليه الآن.
حاجة سكان المعمور الأمنية من الخطر النووي لا غبار عليها، وحاجة الكبار أنفسهم إلى تقليص ترساناتهم من شدة جمرٍ وهاج يحمله كل منهم بين يديه لألا يحرقهما قبل أن يحرق غيره هي أيضا حاجة منطقية ملحة، فلا ضمان من أن يكون حامله أول ضحايا انفجار مفاعلاته، وإن كانت الحاجة إلى الإبقاء على توازن الرعب ضرورية للمتنافسين، ويظل توازن الرعب هو الكفيل، على كل حال، بعدم تجاوز الخطوط الحمراء فيما بين الأقوياء.
لو تم حصر القضية في هذا المدى لكان الأمر أهون، لو كان أهل الفيتو هيأة قضائية عادلة في الحكم بين فرقاء أمم ودول العالم “الرعية” وخصوماتها لكان وقع المهانة على الرعية أخف.
في غياب العدالة في توزيع الثروة -وإن كان ذلك مطلبا مثاليا على ظهر الكرة الأرضية- ونظرا لغياب أي شكل إنساني ناجع يحمي حوزة الضعيف ويروي ظمأ العطشان ويخفف معاناة الجوعان، وفي ظل سيادة “قانون” يتصرف بموجبه الأقوياء، قانون هو أقسى من قانون الغاب على حساب الضعفاء التعساء، كان لا بد لكل أمة أن تبذل أقصى الجهود السرية والعلنية للحصول على وسيلة لردع البغي والعدوان حفاظا على الثروة والكرامة والهوية من أن يكتسحها الطامعون ويدوسها المستكبرون.
من أشد وأقبح تجليات نظام الغاب العالمي محو شعب فلسطين وطمس آثاره وتهويد مقدساته، وزرع النبتة الخبيثة الصهيونية في ترابه، وسقيها بدماء جرحى وقتلى وشهداء أهالي فلسطين، وأفظع من ذلك كله تزويد هذا الكيان الهمجي النابت الغاصب حفاظا على منعته بمئات الرؤوس النووية، وبغيرها من الأسلحة النوعية الفتاكة، قصد تحقيق المبتغى الصليبي من إيجاده، المتمثل أساسا في عرقلة نهوض حضارة المشرق العربي والإسلامي من جديد، يسميها بعضهم بالعملاق النائم، في إشارة تدل على استشعار الرهبة من استيقاظ ذلكم العملاق بعد سبات !
فهل يستقيم عقليا ومنطقيا مجاراة عدو طاغ باغ مسلح بقوة نووية استراتيجية، ومواجهته وردعه وقهره بالحجارة والسيوف؟
كان لا بد إذن للبلدان المجاورة للعدو الصهيوني ولغيرها من البلدان الإسلامية والمستضعفة المعرضة للتهديد الوجودي أو المهددة في مصالحها أن تعد ما استطاعت من العتاد والعدة ليوم الشدة، وهكذا بذلت كل من مصر وليبيا والعراق وسوريا وغيرها جهودا في المجال النووي، وكذلك فعلت من قبل باكستان وإيران وكوريا الشمالية، فمن هذه الدول من اضطر للتراجع تحت الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية، ومنها من تخلى عن برنامجه تحت طائلة التهديد العسكري، ومنها من تم تدمير مفاعلاتها من طرف العدو الصهيوني بإيعاز من الغرب، ومنها من لا يزال مشروعها يراوح مكانه بين الإقدام والإحجام، وما أفلح في الوصول إلى سلاح الردع لحدود كتابة هذه السطور غير باكستان في مواجهة العملاق الهندي، العدو التقليدي اللدود، وكذلك كوريا الشمالية، وهي بإزاء جارتها وخصمها المدعومة أمريكيا في جنوب البلاد. أما إيران فإن مشروعها النووي الحساس المثير للجدل يتعرض لأقوى الضغوط الدولية ليس لألا يقتحم برنامجها المجال العسكري فحسب، بل لأجل تقييد مجال اشتغاله حتى خارج الميدان العسكري أيضا، وقد مر بسنوات من المفاوضات العسيرة بين إيران من جهة ودول الفيتو مدعومة بألمانيا عملاق أوروبا الصناعي والاقتصادي، فيما يسمى ب1+5 من جهة أخرى، قبل التوصل إلى اتفاق دولي عام2015م، وقد بات هذا الاتفاق عند كتابة هذه الكلمات مهددا بالانهيار بسبب موقف الإدارة الجديدة للبيت الأبيض بقيادة الرئيس الجمهوري المتشدد دونالد ترامب.
كل هذا وغيره وأكثر منه، لأجل الاستفراد بزعامة العالم، وضمان ديمومة التفوق، والاستبداد بفرض القيود والشروط على كل من سولت له نفسه أن يسعى لامتلاك ناصية العلوم والتقدم والصعود لمزاحمة الكبار.
إن أسلحة الدمار الشامل وباء وبيل على البشر والحجر والشجر، وإن السبيل الأمثل لدرء الدمار عن الكرة الأرضية هو نهوض عقلاء العالم للعمل على التخلص منها، لكن ما هو أشر من ذلك يتجلى في تطبيق قاعدة “حلال لنا حرام عليكم ! ” وذلك عندما تكون حكرا على البعض يتخذها عصا غليظة على رؤوس الآخرين يبتز بها كرامتهم وحرماتهم وحرياتهم وآدميتهم.
كلمة أخيرة نوجهها لطغاة العالم، إن القاعدة الإرهابية الظالمة “حلال لنا حرام عليكم” لن تضمن للعالم ولا لمصالحكم أمانا ولا سلاما إلى الأبد.
المصدر : https://tinghir.info/?p=31381