الوثيقة عمود البحث التاريخي

admin
اقلام حرة
admin18 أكتوبر 2014
الوثيقة عمود البحث التاريخي
مصطفى علاحمو

إن” التاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم في صفحاته دروس وعبر للمتأملين، لأنه نتاج عقول أجيال كاملة، والأمة التي تهمل قراءة تاريخها لن تحسن قيادة حاضرها” وبالتالي إن دراسته بمنهج ورؤية بعيدة تلخّصها في النهاية وثائق وأسانيد تضم في سطورها حقائق وتكشف عن أمور وموضوعات تتجدد مع البحث العلمي على الدوام ، وتفتح أمام العيون أبواباً للاجتهاد والدراسة والتحليل وفقاً للظروف والعوامل التاريخية التي استوجبتها تلك الوثائق في مرحلة زمنيـة معينـة . إن الوثائق إذا ما توافرت وأتيح لها الظهور تظل مصدراً حقيقياً لكتابة التاريخ والبحث فيه، فلا تاريخ بلا وثائق ومن دون شواهد أو أدلة مؤكدة منذ زمن ليس بالبعيد، وحتى الآن ومع نشوء المدارس التاريخية الحديثة وتطورها لم يعد التاريخ حكايات وقصص تروي ، أو أساطير خارقة ، أو مواقف ساخرة يتندر بها .. التاريخ صار ذاكرة حية للشعوب ومادة علمية غزيرة تحتاج في التعامل معها إلى أمانة متناهية لا يتقنها سوى المؤرخين والباحثين المخلصين، يكاد يرددهما كثير من الناس في بلادنا كـل يوم في شغف بالماضي وإسقاط على الحاضر .. والمستقبل أيضاً، ربما يعطيان في واقع الأمر ومن منظور الموروث الشعبي تعريفاً شاملاً ومختصراً للتاريخ ووقائعه ويشيران بجلاء إلى أهمية الوعي بقيمة الوثائق التاريخية ومـا دام التاريخ والوثيقة لا ينفصـلان ويلتقيـان في نقطة واحـدة فهـي التاريخ نفسـه، لان المصادر المحلية بما تحويه من وثائق تظل ذات أهمية عالية لمن تهمه فعلى سبيل المثـال الاشتغـال على موضوعـات التاريخ المغربي الحديث أو المعاصـر، وقـد نهـض بلا شك العديد من المهتمين لدينـا وكذلك بعض المؤسسـات العلمية بهذا الجهد الشاق .. والكبير جمعاً وتحقيقاً ونشراً وتتمثل هذه المصادر المهمة في جزء واسع منها في وجود العديد من الوثائق والتقييدات التي مازال أغلبها مجهولاً حبيس الإهمال أو قابعاً لدى الخاصة للأسف، وهي تبقى في حاجة ملحة ومستمرة إلى المزيد من الجهد والتضافر للبحث في طياتها المختلفة على امتداد الوطن  والوصول إلى الإقناع بالكشف والإبانة عنها، خاصة بعد انقضاء فترات طويلة عليها وغياب رمـوزها أو شهودهـا وتسمح الظروف باستخدامهـا في إطـار علمي.

      لقد تسبب عدم توفر هذه المصادر وإتاحتها بالقدر المطلوب في تعمّق الإحساس عند الكثير من الباحثين بوجود بعض الثغرات في الكتابة التاريخية وبات أغلبهم يتناسى تلك الوثائق واعتقدوا انه لا يمكـن التعويل عليهـا ليعتمـدوا في المقابل على الروايات الشفوية التي يشوب بعضها المبالغة والتهويل أو النسيان رغم أهميتها أيضاً وأهمية أصحابها المعاصرين للأحداث والوقائع وما تناقلوه في إطارها عن ثقاتٍ آخرين ولم يقفوا عليها بأنفسهم، وقد تأكد لدى الباحثين بأن الذين أسهموا في صنع تلك الأحداث والظروف لم يتركوا  شيئاً مادياً موثقاً وملموساً  في غالب الأحيان يمكن الركون إليه في التحقيق أو المقارنة بوثائق أخرى أو روايات شفهية تتوخى الصدق والتجرد، وأرجعوا أسبابه إلى تفشي الأمية، وقلة مصادر الثقافة والمعرفة، وانعدام وسائـل الأعلام، وتباعد مناطق البلاد وعزلتها وقت الاحتلال وندرة الأنظمة الإدارية، فاتجه البحث تأسيساً على هذا المفهوم في المصادر الأجنبية، وهي إجمالاً – إلا فيما ندر- تمثل وجهة نظـر واحـدة  مما يفتح مجالاً للتعامل معها بحذر – رغم أهميتها أيضاً – وعلى هذا أضحت المكتبات التاريخية المغربية في ركن منها تتعطش إلى حد كبير، لمصادر التوثيق المحلية التي طفق الإهمال يلازمها أحياناً كثيرة رغم وجوب الاستمرار في البحث عنها مع مرور الزمن الطويل الذي يعدها ملكاً للتاريخ وذمته. فالشعــر الشعبــي الأمازيغي مثلا ترسخ لدى المشتغلين أيضاً بالموضوع التاريخي المغربي اعتقادا بأن بعض قادة حركة المقاومة أو ممن لعبوا أدواراً مختلفة خاصة في “الجنوب الشرقي” إبانها مختلفة ومتباينة – إيجاباً أو سلباً – لم يكن لديـهم اهتمام بالتوثيـق والتدوين المباشـر، بعكس العسكريين أو الساسة أو المعاصرين من الأجانب الذين خلّفوا مذكراتهم وانطباعاتهم وصدر بعضها في طبعـات عديدة وظلت مرجعـاً يبين عـن معايشتهم للأحـداث والظروف  وأعُتبر هنا في جانب مواز  للشعر الشعبي الذي نظم في تلك الفترة، إضافة بالطبع إلى الرواية الشفوية، مصدراً لتاريخنا لأن أغلب ناظمي ذلك الشعر اقتربوا كثيراً من وقائع التاريخ المغربي .. وحضـروا المعارك ووقعوا في أسر والإبعاد، وحُشدوا في السجون والمعتقلات الرهيبة  وما سوى ذلك من صور المعاناة والآلام، ففي الشعر والرواية  كثير من الصدق مع ملاحظة بُعد الفترة الزمنية والاعتماد على الذاكرة واختلاط الموضوعات والأحداث بحكم التشابه، وظروف السن والعمر للرواة والشهود، فيما كانت  في الواقع ، أدوار ومعسكرات المجاهدين تنتظم في إدارة جيدة توثق المراسلات والحوادث اليومية، وكان أيضاً لكل واحد من قادة الجهاد – وفقاً لثقافتهم ومعارفهم-  خاصة في السنـوات المبكرة من وقـوع الغـزو الفرنسي الاسباني  في مختلف المناطـق قريبة كانت أم بعيـدة إن صح التعبير، يشمل مراسلاته ويومياته وتعليقاته وتهميشاته على ما يصله من أوراق ومستندات ومذكراته أيضاً التي أهملت أو ضاعت فلم تنشر لاحقاً ليتصل بها الدارسون والباحثون تحسيساً لها بالانتماء إلى تاريخ المغرب.

  إن أهمية هذه الوثائق والدور الذي يمكن أن تقوم به ندركما أنها قطع نادرة ومهمة من التاريخ الحقيقي لهذه البلاد  وما يتعلق بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لايجوز كتمها و هي تثير قضايا وموضوعات نحتاجها في كتابة تاريخنا خاصة وهو ما يهمنا  الآن تاريخ المغرب العميق المنسي، وهذه الوثائق في الغالب حقيقية إمـا بخط أيـدي أصحابها أو عن طريق الإمـلاء أو النسخ والنقل منها أيضاً، وتدلنا بأمثلتها المختلفة على تنـوع الموضوعات، ووفرة المعلومات، ومتابعة الشؤون بلا توقف، وهي تتوزع أيضاً ما بين المراسلات والمكاتبات المباشرة بين قادة الجهاد وزملائهم أو مرؤوسيهم أومن يكلفون بمهام منهم، والردود المقتضبة المفتوحة ” والمشفَرة ” أحياناً، والجداول الاقتصادية والمالية  وبيانات الرسوم والجمارك والزكاة وتجميع الأعشار، والقيودات المالية، وتمام الأسلحة والوسائط الحربية والمعدات والذخائر، والغنائم، وتحركـات العدو ووسائل مراقبته ومتابعته  وأحوال الأسرى، قوائم الشهداء، وتقارير وأخبار متواصلة عن سير المعارك وزمنها ومكانها، وطلب المساعدات والنجدات، وبيانات كثيرة عن الدواب المستعملة والأوامر والتعليمات وغير ذلك .

    إن أرشيف المقاومة المسلحة المغربية موجود في كل هذه الوثائق رغم ندرتها، وهو شيء رائع يدلنا على أن هناك تنظيماً عالياً في إدارة معسكرات المجاهدين، ويدل أيضاً على حرص ودقة من وُكَل بهذه المهام الدقيقة سواء طلبة أو أساتذة باحثين، وتعد شاهداً رئيسياً لحركة المقاومة ضد الاستعمار منذ وقوع الاحتلال قبل سنة 1912م، وتدلنا أيضاً على وجود تنسيق واضح وكامل بين القـوى الوطنية الفاعلة في المناطق المغربية كافـة  وبلا استثناء، بحيث إن المصادر والوثائق المحلية في هذه الفترة المهمة لا تقل أهمية وتأثيراً عن غيرها الأجنبية بل ربما تظل في الصدارة من الناحية الوطنية والعلمية والتوثيقية و كانت هذه المصادر قريبة من وهج النار ورائحة البارود، ومعاناة المجاهدين وعزمهم على القتـال والمقاومة من اجل وطنهم، وهـذه الوثائق التي تشكَـل ذاكرة محلية ووطنية مذهلة تفصح عن إحاطة كاملة بالأحداث والمجريات العالمية وتبيَن بأن المجاهدين كانوا على اتصال ومعرفة بالظروف العامة الخارجية أيضاً وفهم عميق لما يدور حولهم ويتأثـرون به، ويؤثرون فيـه، رغم قلة وسائـل الاتصال وصعوبة التخاطب، خاصة في أعوام الحرب العالمية الأولى ( 1914م- 1918م ) وما تداعى عنها في الداخل من إنعكاسات مريرة. لبقى السؤال المطروح لماذا غياب الدعم في مجال البحث العلمي التاريخي في المغرب؟

 

الكاتب: مصطفى علاحمو

        لحارث- ن- اكرامن  تنغير

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.